يقوم في أسس البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية ومن سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).
ولا عجب في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، وتلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة وقوة. أضف إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة جميعا.
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من (نهج البلاغة) عملا عظيما.
وهو ذكاء حي، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب ولا يظلم منه كثير أو قليل، وغاص عليه عمقا، وقلبه تقليبا وعركه عركا، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشد القرب، وما بعد أقصي البعد.
ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنى اتجهت.
وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. وهو لاتساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، ولا عبارة إلا وتفتح أمام النظر آفاقا وراء ها آفاق.
فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل والنظر يكشف لك قوله: (الناس أعداء ما جهلوا) أو قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه). أو الفجور دار حصن ذليل).