" ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف، فضلا عن الوحشي الجاهل، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، الخ " فإنه مع عدم العلم بالطريق لا يتمكن من الوصول، لا أنه يتمكن ولكن يعسر عليه فلا تغفل.
الثالث: في وجوب اللطف ولزومه، وهو كبرى القياس، ولا يخفى عليك أن الأدلة الدالة على وجوبه متعددة.
منها: ما أشار إليه في المتن من برهان الخلف، فإن اللطف مقتضي كونه تعالى كمالا مطلقا، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لذلك الفيض، كما هو المفروض، فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه، ولا مصلحة في منعه، وإلا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا، أو عدم حاجة الإنسان إلى البعثة وكلاهما ممنوعان.
وبعبارة أخرى: إن حاجة الإنسان إلى البعثة كما عرفت، أشد من الحاجة إلى كل شئ آخر، كانبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين، وغير ذلك، فإن الإنسان بدون البعثة لا يتمكن من السلوك نحو الكمال اللائق به، والنيل إلى السعادة في الدارين.
فحينئذ نقول كما قال الشيخ أبو علي بن سينا: فلا يجوز أن يكون العناية الأولى وعلمه تعالى بنظام الخير، تقتضي تلك المنافع، ولا تقتضي هذه التي هي اسها، مع أنه لا مانع من وجود الأنبياء والرسل، لتعليم الناس ما يصلحهم وما يضرهم ولتزكيتهم وسوقهم نحو سعادتهم في الدنيا والآخرة، بل مقتضى كماله وعلمه و قابلية المحل وعدم وجود المانع، هو الاقتضاء المذكور والإفاضة، وإلا لزم الخلف في كونه عالما بنظام الخير وكمالا مطلقا، هذا مضافا إلى لزوم تكليف الناس بما لا يطيقون، من السلوك نحو السعادة والكمال في الدارين، من دون ايجاد شرطه، وإلى نقض الغرض من خلقة الإنسان للاستكمال والنيل إلى السعادة، مع عدم اعداد مقدماته، ومن المعلوم أنهما لا يصدران عن الكمال