شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣١ - الصفحة ١٧٧
الحرام فألقيت الأصنام تتكسر كما يتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقنا نستبق خشية أن يلقانا أحد من الناس (1)
قال العلامة الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن البكري الشافعي الأشعري المصري المتوفى سنة ٩٥٦ في (الدرة المكللة في فتح مكة المشرفة المبجلة) (ص ١٢٥ ط القاهرة) في ذكر مكالمة أبي سفيان مع عباس بن عبد المطلب:
قال الراوي: فبينما هم في الحديث، وإذا بغبرة قد ظهرت، وعجاجة قد ارتفعت، وظهر من تحتها ألف فارس عليهم الدروع الداودية، متقلدين بالسيوف الهندية، راكبين على الخيول العربية، فروع الشجرة الهاشمية، وأبطال العصابة النبوية. وفي أوائلهم رجل جسيم، قد علا بطنه قربوس سرجه، يخط الأرض برجليه والشجاعة لائحة بين عينيه، وبيده رايتان كريمتان، فتأملته فإذا هو فارس الدين وبطل الموحدين وقاطع الكفرة والمشركين زوج البتول وابن عم الرسول وسيف الله المسلول ليث بني غالب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فتقدم على أبي سفيان وهو يرتجز ويقول:
أهز لوائي حيثما كنت سائرا * وقد هز إسرافيل في الجو خافق وجبريل ميكائيل لا شك سائرا * أمام رسول الله بالحق ناطق ومعهم خيول الله في الجو والملا * كتائب نصر بالحرب البوارق بهم تكشف الأهوال في كل مشهد * وفينا رسول الله في العد سابق نصرنا رسول الله بالبيض والقنا * ونخلي ديار الشرك من كل بارق فأسلم أبا سفيان تحظى بأحمد * وتحظى بحور ناهدات عواتق فإن رسول الله أفضل من مشى * وأفضل من أضحى إلى الدين سائق عليه صلاة الله ما طار طائر * وما غرد القمري وما ذر شارق قال الراوي: ثم هز الراية في وجه أبي سفيان وحمل عليه حتى كاد أن يقضي عليه، وقال: انظر يا عدو الله ما أعد الله لك ولقومك. ثم كبر ثلاثا ومر منطلقا وتبعته كتيبته، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل من هذا الذي لم يكن في عساكركم مثله، لقد تخيل لي أن الموت لائح بين عينيه، يريد أن يخطف روحي بيديه. فقال له العباس: هذا هو الفارس الكرار، والبطل الهدار، هذا صاحب المفاخر والمناقب، هذا شجاع بني غالب، هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال أبو سفيان:
لقد قلع قلبي من خوفي منه.
إلى أن قال في ص ١٤٤:
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وبسط رداءه وصلى في كل أسطوانة ركعتين، ثم رفع رأسه وإذا بحيطان الكعبة كلها مصورة على صورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم يقسمون بالأزلام ويشيرون إلى الأصنام.
فقال صلى الله عليه وسلم: كذبوا على الأنبياء، وقرأ قوله تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (آل عمران: ٦٧)، ثم رفع رأسه فرأى صورة عالية تشبه صورة إبراهيم عليه السلام، فقرأ قوله تعالى:
(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) ثم دعا بماء فأتوه بإناء فيه ماء، فغسل تلك الصور جميعا، فلما غسلها صلى الله عليه وسلم قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أحنى ظهري لتصعد عليه وتمحو تلك الصورة بيدك الكريمة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقدر يا علي على تحمل النبوة، ولكن أنت ترقى على كتفي وتمحوها، فأجابه الإمام إلى ذلك وصعد على منكبه صلى الله عليه وسلم ومسح تلك الصور، فلما رآه العساكر قالوا له: من مثلك يا أبا الحسن قد علوت على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنيئا لك يا بن أبي طالب، فقال الإمام: يا رسول الله لما علوت على منكبك ظننت أني أطول السماء بيدي، فقال صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده ما وجدت لك ثقلا وإنما حملك جبريل ومكائيل عليهما السلام، وأنشد لسان الحال يقول:
ماذا أقول لمن حطت له قدم * في موضع وضع الرحمن يمناه علي الهاشمي المرتضى خلقا * وهو الذي الحق وافاه وأعطاه قال الراوي: ثم نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهبل الذي على ظهر الكعبة، وقال: يا أبا الحسن انظر إلى الصنم الذي كانت قريش وغيرهم يعبدونه من دون الله ويضلون به كثيرا من الناس، فقال الإمام علي رضي الله: عنه أتأذن لي يا رسول الله أن أصعد على ظهر الكعبة وأرميه على أم رأسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا أبا الحسن، فصعد الإمام على ظهر الكعبة، فلما رآه أهل مكة على ظهر الكعبة لم يبق أحد من أهل مكة إلا وخرج لينظر كيف يصنع بالهبل الكبير وهو مسبوك عليه بالرصاص، فقال بعضهم لبعض: ما كفى محمد بن عبد الله دخول مكتنا بالسيف قهرا حتى يفجعنا في الهبل الكبير، ولكن الساعة يغضب الصنم ويرميه من عنده على أم رأسه أو يسلط عليه أعوانه فيرموه قتيلا بين يديه.
قال الراوي: فلما تقدم علي إلى الهبل ليرمه وإذ قد خرج إليه مردة الجن والشياطين من جوف الصنم، وقد أتوا أفواجا أفواجا ليخوفوه ويزعجوه، فلما رآهم الإمام علي صرخ عليهم الصرخة المعلومة بين قبائل العرب وقرأ عليهم قسما كان علمه له رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، اللهم بما رأته الحجب من جلال جمالك، وبما طاف به العرش من بهاء كمالك، بألف آلائك المعطوف على أوليائك، بباء بهائك لأحبابك، بتاء تمامك الدائم بدوامك، بثاء ثنائك المنعوت بكبريائك، بجيم جمالك الدال على كمالك، بحاء حلمك الدال على صفائك، بخاء خبائك الظاهر لأصفيائك، بدال دوامك في تناهي علوك وارتفاعك، بذال ذاتك المنعوتة في صفاتك، براء رشدك لأهل قصدك، بزاي زجرك لأهل معصيتك، بشين شأنك في رفيع قدرك، بصاد صدقك الموفي لخلقك، بضاد ضيائك في أرضك وسمائك، بطاء طولك لأهل فضلك، بظاء ظلك بآياتك، بعين علمك المحجوب عن عبيدك، بغين غناك عن مخلوقاتك، بفاء فضلك لأهل ذكرك، بقاف قربك من أهل ودك، بكاف كرامتك بأصفيائك، بلام لطفك بجميع خلقك، بميم ملتك مع عظيم قدرتك، بنون نورك لأهل جنتك، بهاء هدايتك لأهل طاعتك، بواو ودك لأوليائك، بلام ألف لا إله إلا أنت يا كريم، وبجلال فضلك العظيم، بياء يسرك لمن ابتلى بعسرك، دفعت كل من يؤذيني بالصافات صفا، والذاريات ذروا، والنازعات غرقا، أرجز المردة والشياطين لا ينطقون إلى يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين، هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، خرست الألسن، وخمدت الأعين، وخضعت الأعناق لأسماء الملك الخلاق، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز، اللهم يا من جعلت بين البحرين حاجزا وبرزخا وحجرا محجورا، اللهم يا علي المكان، يا شديد الأركان، يا قوي السلطان، يا دائم الإحسان، يا من شأنه الكفاية والرعاية، يا من هو الغاية وإليه النهاية، يا كاشف الضر بالعناية، اصرف عني كل ما يكيدني بالأشباح الروحانية، والأقسام اليونانية والكلمات العبرانية، بما نزل في الألواح من التبيين والإيضاح، أعوذ بك من شر طارق في الليل إذا غسق، والصبح إذا انفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر جميع الأشرار الخاضعين لرب العالمين، زجرت الطيارين في الهواء، من يجوس ضلال الديار، البارزين في الأسحار، السائحين في أطراف النهار، ووجدت الله الملك الجبار الذي كل شئ عنده بمقدار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، لا ملجأ لكم من صواعق القرآن المبين وعظائم أسماء رب العالمين، طابعكم مطمو تفرقوا أشتاتا، تيقظوا أمواتا أزهقوا رفاتا، فإني تحصنت بذي العزة والجبروت، واعتصمت برب الملكوت وتوكلت على الحي الذي لا يموت، مولاي أسلمت إليك فلا تضيعني، وتوكلت عليك فلا تخيبني، والتجأت إليك فلا تردني، أنت المطلوب والمطلب، إليك المفر والمهرب، أمسك عني أيدي الظالمين، من الإنس والجن أجمعين، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
قال الراوي: فما أتم الإمام علي ذلك القسم العظيم إلا والهبل الكبير خر على أم رأسه على الأرض، فترلزلت مكة من ثقل تلك الصخرة، فعند ذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة، وقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ألا وإن قتل الخطأ شبه العمد بالسوط وبالعصا في هذا البلد فيه الدية الكاملة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها الأولاد، ألا يا معشر قريش إن الله تعالى قد أذهب عنكم فخر الجاهلية، وقرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) يا معشر قريش ما ترون ما فعلت بكم؟ قالوا: خيرا يا رسول الله، نعم الأخ الكريم، والنبي الرحيم، ثم قال: اذهبوا أنتم العتقاء، ثم التفت بوجهه لبني خزاعة، وقال لهم: اعلموا أن الله تعالى حرم هذا البيت الحرام، والبلد الحرام من يوم خلق السماوات والأرض، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها الدماء، ولا يعضد فيها الشجر، وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولا حلت هذه الساعة إلا غصبا على أهلها، ثم عادت إلى حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فالحاضر منكم يبلغ الغائب - الخطبة الشريفة.