سنا مني قد ذاق الموت؟ قال بلى، ثم قال لأمه انسجي له مدرعة من شعر وبرنسا من صوف، ففعلت.
فتدرع المدرعة على بدنه ووضع البرنس على رأسه، ثم اتى بيت المقدس فأقبل يعبد الله عز وجل مع الأحبار، حتى اكلت مدرعة الشعر لحمه.
فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه، فبكى، فأوحى الله تعالى: يا يحيى أتبكي مما قد نحل من جسمك، وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار إطلاعة، لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج، فبكى حتى اكلت الدموع لحم خديه، وبدا للناظرين أضراسه.
فبلغ ذلك أمه، فدخلت عليه وأقبل زكريا واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه، فقال ما شعرت بذلك، فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا انما سألت ربي ان يهبك لي لتقر بك عيني؟ قال أنت امرتني بذلك يا أبة، قال ومتى ذلك يا بني؟ قال: الست القائل: ان بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله؟ قال بلى، فجد واجتهد وشأنك غير شأني.
فقام يحيى فنفض مدرعته، فأخذته أمه فقالت: أتأذن لي يا بني ان اتخذ لك قطعتي لبود يواريان أضراسك وينشفان دموعك؟ فقال لها: شأنك. فاتخذت له قطعتي لبود يوريان أضراسه وتنشفان دموعه، حتى ابتلتا من دموع عينيه، فحسر عن ذراعيه، ثم أخذهما فعصرهما فتحدر الدموع بين أصابعه.
فنظر زكريا إلى ابنه والى دموع عينيه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم ان هذا ابني وهذه دموع عينيه وأنت أرحم الراحمين.
وكان زكريا عليه السلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا فان رأى يحيى لم يذكر جنة ولا نارا.
فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل، واقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة، فجلس في غمار الناس، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى، فأنشأ يقول:
حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى: ان في جهنم جبلا يقال له السكران