ومعه يومئذ شريح بن هانئ الحارثي في أهل الكوفة، فلما توسط المسلمون (1) البلاد وأخذ عليهم أيضا رتبيل العقبات والشعاب كما فعل بأمية بن عبد الله من قبل، قال:
فبقي ابن أبي بكرة لا يقدر على الخروج، فبعث إلى رتبيل أنك قد فعلت كذا الفعال بغيري، ولكن ما يغنيك، وما الذي تريد؟ قال: أريد منك أن تحط عني خراج عشر سنين وتعطيني ألف ألف درهم ونصف ما معك من السلاح والكراع، وتعطيني ولدك وأشراف قومك رهائن حتى أخلي لك السبيل (2)! فأرسل ابن أبي بكرة إلى من كان معه من أهل البصرة وأهل الكوفة فأخبرهم بهذا الخبر. فقال البصريون: أيها الأمير! الرأي عندنا أن نصالحه ونعطيه ما سأل، فقال شريح بن هانئ الحارثي وأهل الكوفة: لا والله ما كان ذلك لرتبيل منا أبدا! قال: فغضب ابن أبي بكرة، ثم قال شريح بن هانئ: هذا ما أنت والاعتراض علي ما أريد، تريد أن تنقض علي أمري ويقتل المسلمون! فقال شريح: يا بن [أبي] بكرة! إنما أنت عبد حبشي، وشرفك بالبصرة حمامك وبستانك، فدع عنك هذه الرئاسة فإننا إنما قدمنا إلى هذا البلد لأجل الجهاد، والله لا متنا إلا كراما إن شاء الله (3). قال: ثم أقبل شريح على أهل الكوفة فقال: أخبروني عنكم ماذا نقول غدا لشباب مذحج بالكوفة؟ إننا قد اشترينا اللؤم بالكرم والكفر بالايمان والنار بالجنة كما فعل ذلك أمية بن عبد الله بن قبل! ثم قال: ألا! من كان ههنا من مذحج وهمدان فليتقدم معي إلى أعداء الله!
قال: فأجابه الناس من كل ناحية بالتلبية. قال: وكان شريح بن هانئ في وقته ذلك قد نيف على مائة سنة وهو أحد المعمرين، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا (4) بكر وعمر وعثمان، وقد شهد وقعة الجمل وصفين والنهروان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: فتقدم يومئذ عشرة آلاف رجل من أهل الكوفة وهو يرتجز ويقول (5):
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا * قد عشت بين المشركين أعصرا