ثلاثين سنة في بلاد الروم والشام وغيرها مع ما كان عليه من الفضل والمعرفة وطول صحبة الملوك والأمراء والعلماء ولا شك انه اتفق له في سياحته هذه أمور غريبة وأشياء كثيرة لو دونت لكانت من نفائس الكتب ونرى أن الشهيد الثاني دون رحلته من الشام إلى القسطنطينية إلى إيران إلى العراق إلى الشام التي لم تستغرق زمنا طويلا فكان فيها من الفوائد والغرائب أمور كثيرة تداولها المؤلفون واستفاد منها المطالعون وكذلك رحلته من الشام إلى مصر كما ذكرناه في ترجمته وابن بطوطة وابن جبير دونا رحلتين لهما لم يستغرقا بعض ما استغرقته سياحة البهائي وقد طبعتا ونشرتا واستفاد منهما الناس ولا ريب ان سياحة البهائي لو دونت لكانت فوق ذلك كله ولكن وللأسف لم يدون منها شئ سوى أمور يسيرة نقلها الشيخ احمد المنيني في شرح قصيدة البهائي عن أبي المعالي الطالوي وستأتي.
مركزه في الدولة يقول المنشي في كتابه عالم ارا عباسي تقلد الشيخ منصب شيخ الاسلام في أصفهان زمن الشاه عباس الكبير خلفا للشيخ علي المنشار وتبوأ مكانته المعروفة في عهد الشاه المذكور ولم يكن لاحد من كبار الرجال الصفويين مركز يداني مركزه ولذلك كثر حساده ومناوئوه وكثر الدس حوله حتى تمنى ان والده لم يخرج به من جبل عامل إلى الشرق في كلمة قوية عبر بها عن تبرمه من فساد الاخلاق في كثير من أبناء زمانه ومعاصريه فقال طيب الله ثراه: لو لم يأت والدي قدس الله روحه من بلاد العرب ولو لم يختلط بالملوك لكنت من اتقى الناس وأعبدهم وأزهدهم لكنه طاب ثراه أخرجني من تلك البلاد وأقام في هذه الديار فاختلطت باهل الدنيا واكتسبت أخلاقهم الرديئة واتصفت بصفاتهم ثم لم يحصل لي من الاختلاط باهل الدنيا الا القيل والقال والنزاع والجدال وآل الامر ان تصدى لمعارضتي كل جاهل وجسر على مباراتي كل خامل. هذه نص كلمة الشيخ وهي نفثة مصدور عبر بها كما قلنا عن آلامه وامتعاضه وتكاثر حساده ومنافسيه وما كان أكثر هؤلاء الحساد والمنافسين بلا شك الا من ذوي الاطماع وعباد المصالح الشخصية والجاه الزائف ولكنهم مع ذلك لم ينالوا منه منالا ولا استطاعوا ان يزعزعوا من مركزه الكبير وكان ذلك من بواعث تنغيص عيشه وتكدير صفو حياته أحيانا وطالما نفس عن كربه بالعزلة أو بالسياحة والرحلة. يستفاد أيضا من هذه الكلمة ان والده الحسين بن عبد الصمد سبقه إلى مخالطة الملوك وصحبة السلاطين عند ما انتقل من بلاده إلى البلاد الإيرانية وذلك في عصر الشاه طهماسب حتى ألف له كتابا في الفقه سماه العقد الطهماسبي ومن ذلك يتضح ان هذه الدولة الناشئة كانت بأمس الحاجة إلى من يرعى لها التاليف في المعارف الدينية والمصنفات في أصول الشريعة وفروعها فلم ينهض بهذه المهام الجسام الا قليلون في مقدمتهم الحسين بن عبد الصمد وابنه بهاء الدين بعد ذلك والظاهر أن إقامة الشيخ حسين لم تكن طويلة في حواضر الدولة الصفوية فإنه سرعان ما انتقل منها عائدا إلى البحرين فأقام فيها إلى أن وافته المنية رحمه الله وكانت البحرين عامرة بالمدارس والدراسة وفيها عدد غير قليل من الفقهاء والمحدثين والأدباء ولا تخلو البحرين حتى هذا اليوم من تلك الدراسات.
بطل أم قديس وتتحدث الأجيال التي تلت جيل البهائي حتى الجيل الحاضر بأحاديث تشبه الأساطير عن مكانته وأعماله الإنشائية في دولة الشاه عباس الكبير حتى أنه كان يضع تصاميم المعاهد والمعابد والصور وغير ذلك من الأبنية التي اشتهر هذا الشاه بانشائها وهي مبان ضخمة لا يزال جملة منها قائما ومنها عمارة المشهد العلوي في النجف وهذه التصاميم تشهد للشيخ بخبرته وبراعته الفنية في فرع الرياضيات والهندسة وقد وضع تصاميم كثيرة من تلك المعابد والمساجد على أسس فنية بحيث يستفاد منها تعيين المواقيت الشرعية ويقال انه صنع بعض الآلات الفلكية التي تحدد المواقيت المذكورة ولا شك في صحة هذا القول لأن له أكثر من تأليف واحد في صناعة الأسطرلاب وما إلى ذلك من الآلات العلمية. هذا إلى روايات اخر شائعة عند الجمهور عن اعماله الرصدية والفلكية في أصفهان وغيرها من ديار الفرس والعرب وهي روايات ترفع البهائي إلى مستوى الأبطال أو القديسين في نظر الجمهور ولا شك ان جملة من هذه الروايات لا تتحمل النقد والتمحيص ومما لا شك فيه أن سور المشهد العلوي القائم اليوم يرجع إلى عصر الشاه عباس الكبير وان الشيخ البهائي أشرف على وضع اسمه وانشائه وان كنا لا نحدد بالضبط مدة مكثه في النجف بيد انه على كل حال جاء إلى النجف ونشأت بينه وبين علماء هذه المدينة علاقة وثيقة حتى دارت بينه وبينهم مراسلات شعرية ونثرية بعد عودته إلى أصفهان ويروي المحبي في خلاصة الأثر بعض الرباعيات التي كاتب بها الشيخ بعض إخوانه في هذه المدينة.
ورود الخطي على البهائي بأصفهان وفي سنة 1016 دخل الشيخ أبو البحر جعفر الخطي العبدي من عبد القيس البحراني شاعر البحرين الشهير أصفهان واتصل بحضرة المترجم وعرض عليه أدبه فاقترح عليه إجازة هذه القصيد فأجازها الخطي بالقصيدة المذكورة في ترجمته التي أولها:
هي الدار تستسقيك مدمعك الجاري فسقيا فأجدى الدمع ما كان للدار ومده بها المترجم وأنشده إياها بداره في محروسة أصفهان في رجب من السنة المذكورة وكان المتولي لانشادها الحسن بن محمد الغنوي الهذلي راوية الخطي ومنشده فاستحسنها واستجادها ولما وصل في انشادها إلى قوله:
جهلت على معروف فضلي فلم يكن * سواه من الأقوام يعرف مقداري وكان عند الشيخ البهائي جماعة من أعيان البحرين وساداتهم فقال الشيخ وهؤلاء يعرفون مقدارك ان شاء الله وأشار إلى القوم واجازه.
ثم كتب له رقعة بيده المباركة هذا لفظها: أيها الأخ الأعز الفاضل الألمعي بدر سماء أدباء الأعصار وغرة سماء بلغاء الأمصار أيم الله اني كلما سرحت بريد نظري في رياض قصيدتك الغراء ورويت رائد فكري من حياض فريدتك العذراء زاد بها ولوعي وغرامي واشتد إليها شوقي وأوامي فكأنما عناها من قال:
قصيدتك الغراء يا فرد دهره * تنوب عن الماء الزلال لمن يظمأ فنروي متى نروي بدائع لفظها * ونظما إذا لم نرو يوما لها نظما