وكيفما كان، فالذي يصلح أن يكون مرادا من الدليل العقلي المقابل للكتاب والسنة هو: " كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي " وبعبارة ثانية هو: " كل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشرعي ". وقد صرح بهذا المعنى جماعة من المحققين المتأخرين (1).
وهذا أمر طبيعي، لأ أنه إذا كان الدليل العقلي مقابلا للكتاب والسنة لابد ألا يعتبر حجة إلا إذا كان موجبا للقطع الذي هو حجة بذاته، فلذلك لا يصح أن يكون شاملا للظنون وما لا يصلح للقطع بالحكم من المقدمات العقلية.
ولكن هذا التحديد بهذا المقدار لا يزال مجملا، وقد وقع خلط وخبط عظيمان في فهم هذا الأمر. ولأجل أن ترفع جميع الشكوك والمغالطات والأوهام لابد لنا من توضيح الأمر بشئ من البسط، لوضع النقاط على الحروف كما يقولون، فنقول:
1 - إنه قد تقدم (ج 2 ص 277) أن العقل ينقسم إلى عقل نظري وعقل عملي. وهذا التقسيم باعتبار ما يتعلق به الإدراك:
فالمراد من " العقل النظري ": إدراك ما ينبغي أن يعلم، أي إدراك الأمور التي لها واقع. والمراد من " العقل العملي ": إدراك ما ينبغي أن يعمل، أي حكمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أولا ينبغي فعله.
2 - إنه ما المراد من العقل الذي نقول إنه حجة من هذين القسمين؟
إن كان المراد " العقل النظري " فلا يمكن أن يستقل بإدراك الأحكام الشرعية ابتداء، أي لا طريق للعقل أن يعلم من دون الاستعانة بالملازمة أن هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع.