ومحصل هذه الكلمات أمور ثلاثة:
الأول: أن علماء اللغة لا يعرفون المعاني الحقيقية من المجازية، إذ لا طريق لهم إليها.
الثاني: لا يعرف بمراجعة كتبهم الحقيقة من المجاز.
الثالث: معرفة الظواهر تتوقف على معرفة الحقائق من المجازات، ونحن نختصر لك القول في جميعها، ونقول:
طريق اطلاعهم على المعنى الموضوع له واضح، لا أرى سببا لخفائه على هؤلاء الأعلام إلا شدة وضوحه، لأنه بعينه الطريق الذي تعلموا، وتعلم جميع الناس من أهل جميع اللغات معاني الألفاظ الأصلية في زمن الطفولية، إذا الطفل لا يزال يسمع الألفاظ مستعملة في معاني يعرفها بالقرائن، وربما احتمل المجاز في استعمالين أو ثلاثة، فيحتاج إلى ما رسمه له الأستاذ من إعمال العلائم، ولكن بتكرر الاستعمال يزول ذلك الاحتمال، ويقطع بالوضع، كما يحتمل الخطأ والغلط في استعمال واستعمالين، ثم يزول ذلك بالتكرار، فيكون في غنى عن العلائم.
وإن كنت بعد في شك فيه، فراقب صغار أولادك، أو راجع نفسك إذا عاشرت غير أهل لسانك، وحاولت تعلم لغتهم، وربما سألت عن معنى اللفظ أهل تلك اللغة، وربما كفاك تكرر الاستعمال مئونة السؤال.
وما حال أئمة اللغة مع فصحاء العرب إلا كهذا الحال، فهم - لله درهم - ضربوا آباط الإبل إلى منابت الشيخ والقيصوم (1)، وعاشروا ما ضغيهما زمنا طويلا، وتكرر على مسامعهم الألفاظ حتى حصل لهم القطع بمعانيها، وأصبحوا في غنى عما كلفهم هذا الأستاذ من إعمال العلائم استغناء الأطفال بتكرر سماعهم الألفاظ من آبائهم.