ثم لا يذهب عليك، إنه لا اختصاص للبحث المذكور المفروض على مقالة الباقلاني من البداية إلى تلك النهاية بالباقلاني، بل يجري على طريقة غيره أيضا في غير الألفاظ من العبادات التي هي محل النزاع بينه وبين غيره، من الألفاظ الواقعة على جملة من العبادات التي ليست من الماهيات المخترعة الشرعية، بل هي بمعانيها اللغوية وردت في حيز الأمر العبادي، كالطواف وركوع الصلاة وسجودها في وجه، وسجود الشكر والزيارة وقراءة القرآن، ونحو ذلك مما تقدم في المسألة السابقة لحوقه بألفاظ المعاملات، في عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بل المتشرعة فيها، فإن نزاع الصحيح والأعم لا يجري في هذا النحو من الألفاظ جدا، وينهض ما فيها من الإطلاق حجة لنفي كل ما احتمل مدخليته في الصحة.
ويظهر أثره في سجود الشكر مثلا، لو شك بعد اشتراط صحته بالقربة في اعتبار الطهارة أو القبلة أو وضع الجبهة على ما لا يصح السجود في الصلاة إلا عليه، وفي الزيارة لو شك بعد مساعدة الدليل على اعتبار القربة في مدخلية غيرها، كالطهارة أو الاغتسال أو استعمال الطيب أو نحو ذلك في الصحة، وفي قراءة القرآن لو شك - بعد ما ساعد الدليل على اعتبار القربة - في اشتراط الصحة بالطهارة أو الجهر، أو عدم الغناء فيها بناء على احتمال كونه مانعا.
المقدمة الثانية: قضية ما قررناه في وجه إخراج ألفاظ العبادات عن النزاع على مقالة القاضي، عدم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات مطلقا، فإن هذا النزاع إذا كان متفرعا على أحد الأمرين من الاختراع الشرعي أو التسمية الشرعية فكيف يندرج فيه ما انتفى عنه الأمران معا، على التحقيق المتقدم في المسألة السابقة، من عدم اختصاص تداول هذه المعاملات وإطلاق ألفاظها عليها بأهل هذا الشرع، وثبوتهما في الشرائع الأخر، بل عند من لم يعرف الشرائع أصلا، من منكري الصانع وغيرهم، كيف لا وعليها مبنى نظام العالم، وبها ينتظم أمور معاش بني آدم، فهي إنما يثبت من قديم الأيام من لدن بناء اللغة وحدوثها، فتكون من الألفاظ الأصلية التي وقوعها على معانيها إنما هو بمقتضى أوضاعها اللغوية.