وأما الثالثة وإن كانت باعتبار المفهوم تغاير كلا مما ذكر، حتى " أصالة عدم الاشتراك " المرادفة " لأصالة المجاز " بالمعنى الأخص، غير أنها باعتبار المورد أخص منهما، حيث إنها إنما يؤخذ بها في مواردها على وجه المدركية لهما كما هو واضح. فالعمدة في المقام حينئذ إنما هو النظر في تأسيس هذه الأصول وتحكيمها بالنظر إلى أنه هل لها في نظر العرف والعادة دليل ومدرك صحيح أو لا، ليتضح منه حال المسائل المفروضة، وما شاكلها من حيث الترجيح والوقف.
فنقول: أما " أصالة الاستعمال " فقد اتضح حالها بما لا مزيد عليها، وتبين أنه من الأصول التي لم يثبت لها أصل، فلا حكم لها حينئذ من حيث الترجيح أصلا.
وأما أصالة الحقيقة بالمعنى الأخص: فالذي يساعد عليه النظر إنه أصل معتبر معول عليه، والدليل عليه وجوه:
أحدها: بناء العرف وطريقة أهل اللغة، فإنهم لا يزالون يعاملون مع اللفظ المستعمل في معنى واحد معاملة الحقائق، بترتيب أحكامها وإجراء آثارها عليه من غير تحقيق لشيء من الأمارات فيه، فتراهم في اللفظ الوارد في الأشعار والقصائد القديمة، والكتب المؤلفة المندرسة من السير والتواريخ، وكتب الأخبار والتفاسير، وغيرها يحملونه على ما عثروا بكونه ثمة مستعملا فيه من المعنى المعين وإن كان مهجورا في العرف الحاضر بنفسه أو بمعناه أو كليهما، من دون وقف، ولا اعتناء باحتمال مجازية هذا الاستعمال، ولا كون اللفظ بالقياس إليه مجازا بلا حقيقة، ولا ينكر ذلك عليهم تعليلا بالاحتمال المذكور، بل لو ألقى إليهم شبهة هذا الاحتمال كان مستهجنا في نظرهم، وليس إلا لسخافة الاحتمال، وكونه في السقوط بحيث ليس من شأنه أن يلتفت إليه ولا أن يعتنى به، وهذا مع ما علم ضرورة من وجوب مراعاة أصالة الحقيقة المشخصة للمرادات لا يلائم إلا على كون اللفظ المفروض من حكمه اجراء أحكام الحقيقة عليه.
وكذا الحال فيما يوجد في العرف الحاضر مستعملا في معنى معين واحد من دون إحراز أمارة فيه بالقياس إلى ذلك المعنى، ويرجع ذلك كله إلى أن اتحاد