الشاهدين) قال سعيد بن جبير نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم (يس والقرآن الحكيم) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني ولهذا قال: (بما صبروا) أي على اتباع الحق فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس. وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها ". وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال:
إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: " من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله مالنا وعليه ما علينا " وقوله تعالى: (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي لا يقابلون السئ بمثله ولكن يعفون ويصفحون (ومما رزقناهم ينفقون) أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات وقوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم بل كما قال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب ولهذا قال عنهم إنهم قالوا: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. قال محمد بن إسحاق في السيرة ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا عنه أعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا لهم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا. قال ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران فالله أعلم أي ذلك كان. قال ويقال والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات (الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - لا نبتغي الجاهلين) قال وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت قال ما زلت أسمع من علمائنا أنهن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والآيات اللاتي في سورة المائدة (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا - إلى قوله - فاكتبنا مع الشاهدين).
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون (57) يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد (لا تهدي من أحببت) أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء). وقال تعالى:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله