يخبر تعالى عن مجئ موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه وأيقنوا أنه من عند الله عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا: (ما هذا إلا سحر مفترى) أي مفتعل مصنوع وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك وقوله: (وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) يعنون عبادة الله وحده لا شريك له يقولون ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. فقال موسى مجيبا لهم (ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يعني مني ومنكم وسيفصل بيني وبينكم ولهذا قال: (ومن تكون له عاقبة الدار) أي من النصرة والظفر والتأييد (إنه لا يفلح الظالمون) أي المشركون بالله عز وجل.
وقال فرعون يا أيها الملا ما عملت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين (42) يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله كما قال الله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه) الآية وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ولهذا قال: (يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري) وقال تعالى إخبارا عنه (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحا لهم بذلك فأجابوه سامعين مطيعين ولهذا انتقم الله تعالى منه فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة وحتى أنه واجه موسى الكليم بذلك فقال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) وقوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى) يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين يعني يتخذ له آجرا لبناء الصرح وهو القصر المنيف الرفيع العالي كما قال في الآية الأخرى (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب) وذلك لان فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ولهذا قال: (وإني لأظنه من الكاذبين) أي في قوله إن ثم ربا غيري لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا فإنه قال: (وما رب العالمين) وقال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) وقال: (يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري) وهذا قول ابن جرير. وقوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) أي طغوا وتجبروا وأكثروا في الأرض الفساد واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد (فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد). ولهذا قال تعالى ههنا (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق سهم أحد (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع (ويوم القيامة لا ينصرون) أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة كما قال تعالى: (أهلكناهم فلا ناصر لهم). وقوله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك (ويوم القيامة هم من المقبوحين) قال قتادة: وهذه الآية كقوله تعالى: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود).