قلت إنما يجئ هذا على قراءة من قرأ " أمرنا مترفيها " قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " يقول سلطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب وهو قوله " وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها " الآية وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس وقال العوفي عن ابن عباس " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " يقول أكثرنا عددهم وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعن مالك عن الزهري " أمرنا مترفيها " أكثرنا وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب المأمورة كثيرة النسل والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة من التأبير وقال بعضهم إنما جاء هذا متناسبا كقوله " مأزورات غير مأجورات ".
وكم أهلكنا من القرون من بعد قوم نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) يقول تعالى منذرا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أمما من المكذبين للرسل من بعد نوح ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الاسلام كما قاله ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام. ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله " وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " أي هو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء وهذه مقيدة لاطلاق ما سواها من الآيات فإنه قال " عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم " أي في الدار الآخرة " يصلاها " أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه " مذموما " أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه إذ أختار الفاني على الباقي " مدحورا " مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا. روى الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا رويد عن أبي إسحاق عن زرعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له " وقوله " ومن أراد الآخرة " أي أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور " وسعى لها سعيها " أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم " وهو مؤمن " أي قلبه مؤمن أي مصدق موقن بالثواب والجزاء " فأولئك كان سعيهم مشكورا ".
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجت وأكبر تفضيلا (21) يقول تعالى " كلا " أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نمدهم فيما فيه " من عطاء ربك " أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور فيعطي كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد ولهذا قال " وما كان عطاء ربك محظورا " أي لا يمنعه أحد ولا يرده راد