غفور رحيم) هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر وذلك أن من كان على عمل شئ ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) الآية والآيات في هذا كثيرة جدا. وقوله تعالى (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار وصدق من جعل له معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف. وقوله تعالى: (في تسع آيات) أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه (إنهم كانوا قوما فاسقين) وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) أي بينة واضحة ظاهرة (قالوا هذا سحر مبين) وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين (وجحدوا بها) أي في ظاهر أمرهم (واستيقنتها أنفسهم) أي علموا في أنفسهم أنها حق عند الله ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها (ظلما وعلوا) أي ظلما من أنفسهم سجية ملعونة وعلوا أي استكبارا عن اتباع الحق ولهذا قال تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة وفحوى الخطاب يقول إحذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله وما سبقه من البشارات من الأنبياء به وأخذ المواثيق له عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مسكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهو لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى ولدى وأن أعمل صلحا ترضيه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان عليهما السلام من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة والصفات الجميلة وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة والملك والتمكين التام في الدنيا والنبوة والرسالة في الدين ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين): قال ابن أبي حاتم ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن هشام أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمه لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام وقوله تعالى (وورث سليمان داود) أي في الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود فإنه قد كان لداود مائة امرأة ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقه " وقال: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ) أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين