يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية. فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسئ إلى عقابه، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم. وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله: * (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) * هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلها رحيما ناظرا محسنا إلى العباد.
أما الفريق الثاني: وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا: المعاد أمر جائز الوجود، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه، فوجب القطع بصحته، أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى: البحث عن حال القابل فنقول: الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق، فنقول: لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى، جائزا كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزا. وهذا الكلام لا يختلف، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد، أو قلنا: إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل، وأما إن كان الإنسان عبارة عن البدن، وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول: إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكنا، فوجب أيضا أن يكون في المرة الثانية ممكنا، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.
وأما المقدمة الثانية: فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار. لا علة موجبة، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.
وأما المقدمة الثالثة: فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات، فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختلطت بأجزاء التراب، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالما بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض. ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول: دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن، فوجب القطع بوقوعه، وإلا لزمنا تكذيبهم، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.