وهذه درجة عالية، ومن لم يذقها لم يعرفها، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية، كما يحصل لغيره، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ ما كان فازعا من تلك السباع، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة، فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى. المسألة الثانية: قال أكثر المحققين: إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محفل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: * (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وبقوله تعالى: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة) * (الأنبياء: 103) وأيضا فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال: بل يحصل فيه أنواع من الخوف، وذكروا فيه أخبارا تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
وأما قوله: * (الذين آمنوا وكانوا يتقون) * ففيه ثلاثة أوجه: الأول: النصب بكونه صفة للأولياء. والثاني: النصب على المدح. والثالث: الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.
وأما قوله تعالى: * (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) * ففيه أقوال: الأول: المراد منه الرؤيا الصالحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وعنه عليه الصلاة والسلام: " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " وعنه عليه الصلاة والسلام: " الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره " وعنه صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وعن ابن مسعود، الرؤيا ثلاثة: الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل، وحضور الشيطان، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة. وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة، فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءا من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.
واعلم أنا إذا حملنا قوله: * (لهم البشرى) * على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضا يدل عليه، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب