قال تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * (الحج: 5) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله، وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف، وإن جرح التأم، وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان. ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها، ولو قطعنا غصنا من شجرة ما أخلف، فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة، فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين، فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية، بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات، والحيوان أشرف من النبات، وهو أشرف من الجمادات. فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض، فلم لا يجوز حصولها في الإنسان.
فإن قالوا: إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت، وأما الأرض فليست كذلك.
فالجواب: أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة، وهو جوهر باق، أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر، وهي جارية في البدن، وتلك الأجزاء باقية، فزال هذا السؤال.
الحجة العاشرة: لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة، وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن، بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن، ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة، وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، واتفق لها أن اجتمعت، فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان، فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه، فتولد منها أجزاء لطيفة. ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين، وهو النطفة، فانصب إلى فم الرحم، فتولد منه هذا الإنسان، فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الإنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء، ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور، فتولد منها هذا البدن، فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول.
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضا بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول، وأيضا، فذلك المني لما وقع في رحم الأم، فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر، ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة، ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها، وأيضا فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبدا في طول العمر تكون في التحلل، ولولا ذلك لما حصل الجوع، ولما