المسألة الثانية: المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا، فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات، بل ليس لهم منها إلا النار.
واعلم أن العقل يدل عليه قطعا، وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء، فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا، ولم يحصل في قلبه حب الآخرة، إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة، فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزا عن وجدانها غير قادر على تحصيلها، ومن أحب شيئا ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي، أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل، ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطا باطلا عديم الأثر.
قوله تعالى * (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار، إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى: * (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء) * (فاطر: 8) وقوله: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) * (الزمر: 9) وقوله: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (الزمر: 9).
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل. فالأول: أن هذا الذي