ثم قال: * (أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون) * قيل معنى الآية الزجر والردع، وقيل بل معناه استمالة قلوبهم. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلا.
قوله تعالى * (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى في الآية الأولى، قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به، وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال: ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع البتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر، وعظمت نفرته عنه، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه، فالصمم في الأذن، معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل، فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعا ولا جعل الأعمى بصيرا،