حصلت الحاجة إلى الغذاء، مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ، هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه. ثم انفصل، وكان طفلا ثم شابا، فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل، وأن الإنسان هو هو بعينه. فوجب القطع بأن الإنسان، إما أن يكون جوهرا مفارقا مجردا، وإما أن يكون جسما نورانيا لطيفا باقيا مع تحلل هذا البدن، فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى، ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول، فثبت أن القول بالمعاد صدق.
الحجة الحادية عشر: ما ذكره الله تعالى في قوله: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * واعلم أن قوله سبحانه: * (خلقناه من نطفة) * (يس: 77) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * (المؤمنون: 12، 13) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين: أحدهما: أن يقال: إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضا ممكنا. والثاني: أن يقال: إن ما هو أعظم منه وأعلى حالا منه، فهو أيضا ممكن. ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولا فقال: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * (يس: 79) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله: * (قل يحييها) * إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: * (وهو بكل خلق عليم) * إشارة إلى كمال العلم. ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين، لأنهم تارة يقولون: إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالما بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين: الأول: أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما. إلا أنا نقول: الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية