في يومه لغده. ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة. فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة. وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به. أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لا بد وأن ينتفع به. وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه. ولذلك قال عليه السلام: " من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق " فقيل يا رسول الله وما هو؟ قال: " سرور يوم بتمامه " وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات. ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خاليا عن خلط الآفات، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعا. ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها. فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا: إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام، ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة، ولا شك أيضا أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره. واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين: الأول: أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والثاني: أن المراد من هذه الآية الألطاف. وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد، وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية، وما كان واجبا لا يكون معلقا بالمشيئة، وهذا معلق بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه.
قوله تعالى * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب