كان الاستعداد أقوى وأكمل. كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) *.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (تجري من تحتهم الأنهار) * المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، ونظيره قوله تعالى: * (قد جعل ربك تحتك سريا) * (مريم: 24) وهي ما كانت قاعدة عليها، ولكن المعنى بين يديك، وكذا قوله: * (وهذه الأنهار تجري من تحتي) * (الزخرف: 51) المعنى بين يدي فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم. بل قال: * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة. ثم إذا حصل هذا الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
المرتبة الثانية: من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في دعواهم وجوه: الأول: أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين: * (دعواهم) * أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) * (يس: 57) وقال في آية أخرى * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) * (الدخان: 55) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا: اللهم. وهذا نداء لله سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم: * (سبحانك اللهم) * إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: " اللهم إياك نعبد " الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (مريم: 48) أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى. الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصل ذلك أيضا من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع: قال مسلم: * (دعواهم) * أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم: * (سبحانك