المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا أو غنيا وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين " وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك.
الوجه الثاني: كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرا وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجرا إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
والوجه الثالث: في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * إلى قوله: * (وما نرى لكم علينا من فضل) * (هود: 27) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعا كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا، وإنما يسعى في طلب الدين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه.
فأما قوله: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعا لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء. روى ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام: * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي) * (هود: 27) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون: لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم، ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم، وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أمورا: الأول: أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوها منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة. ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة، ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني، ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال * (ولكني أراكم قوما تجهلون) *.
ثم قال بعده * (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) * والمعنى: أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر، فلو قلبت القصة