وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال، وكل من كان متغيرا كان محدثا، وذلك بالاتفاق باطل. الثالث: أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربا متحركا، وكل ذلك من صفات المحدثات. الرابع: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض لأن كلمة * (ثم) * تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيا عن العرش، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة. فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرا على العرش. فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى.
المسألة الثالثة: اتفق المسلمون على أن فوق السماوات جسما عظيما هو العرش.
إذا ثبت هذا فنقول: العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره؟ فيه قولان:
القول الأول: وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني، أنه ليس المراد منه ذلك، بل المراد من قوله: * (ثم استوى على العرش) * أنه لما خلق السماوات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشا، وبانيه يسمى عارشا، قال تعالى: * (ومن الشجر ومما يعرشون) * (النحل: 68) أي يبنون، وقال في صفة القرية * (فهي خاوية على عروشها) * (الحج: 45) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها، وقال: * (وكان عرشه على الماء) * (هود: 7) أي بناؤه، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة، فالباني يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم، والله تعالى بنى السماوات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر، والدليل عليه قوله تعالى: * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) * (الزخرف: 12، 13) قال أبو مسلم: فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه. فنقول: وجب حمل اللفظ عليه، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأما أجرام السماوات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا. ثم قال: ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * إشارة إلى تخليق ذواتها، وقوله: * (ثم استوى على العرش) * يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله