الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله * (أوفوا بالعقود) * طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أعلم أن المراد بقوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * ليس نفس القيام، ويدل عليه وجهان: الأول: أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة، وأنه باطل بالإجماع. الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لكان قد خرج عن العهدة، بل المراد منه: إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه مشهور متعارف، ويدل عليه وجهان: الأول: أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل، وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور. الثاني: قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النساء) * (النساء: 34) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب، يقال: فلان قائم بذلك الأمر، قال تعالى: * (قائما بالقسط) * (آل عمران: 18) وليس المراد منه البتة الانتصاب، بل المراد كونه مريدا لذلك الفعل متهيئا له مستعدا لإدخاله في الوجود، فكذا ههنا قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة) * معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها. المسألة الثانية: قال قوم: الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفا مستقلا بنفسه، واحتجوا بأن قوله * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * جملة شرطية، الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة. وقال آخرون: المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية * (ولكن يريد ليطهركم) * وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام: " بني الدين على النظافة " وقال: " أمتي غر محجلون من آثار