ليس بعار أن يكون عبد الله، فنزلت هذه الآية، وأنا أقول: إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله، ولا يجوز أن يكون أبنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها، وذلك لان الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات وكان يأتي بخوارق العادات من الاحياء والابراء، فكأنه تعالى قال (لن يستنكف المسيح) بسب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله تعالى فان الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات لانهم مطلعون على اللوح المحفوظ، أعلى حالا منه في القدرة لان ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله، فكيف يستنكف المسيح عن عبودية بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة، فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى (المسألة الثالثة) استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر. وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة، والذي نقول ههنا: انا نسلم أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر، كيف ويقال: ان جبريل قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه انما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر، وهذه الآية لا تدل على ذلك البتة، وذلك لان النصارى انما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات. فايراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة انما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذه العلم، وفى هذه القدرة من البشر، ونحن نقول بموجبه. فاما أن يقال: المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به، فظهر أن هذا الاستدلال انما قوى في الأوهام لان الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم.
(المسألة الرابعة) في الآية سؤال، وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير:
ولا الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز.
والجواب فيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين. والثاني: أن أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله (عبدا لله) عليه على طريق الايجاز.