الغي قال تعالى: * (قد تبين الرشد من الغي) * (البقرة: 256) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى: * (وعصى آدم ربه فغوى) * (طه: 121) فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين، وثالثها: أنه تعالى قال: * (وما أمر فرعون برشيد) * (هود: 97) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول: فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فإنه لا يدفع إليه ماله، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغ ذلك دفع إليه ماله على كل حال، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام: " مروهم بالصلاة لسبع " فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال، فعندها يدفع إليه ماله، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال: لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة، والله تعالى شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية، فيلزم جواز دفع المال إليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال: * (وابتلوا اليتامى) * ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، ثم قال: * (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا) * ويجب أن يكون المراد: فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه، فإنه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال إليه، فإذا كان هذا الشرط مفقودا بعد خمس وعشرين سنة، وجب أن لا يجوز دفع المال إليه، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول: انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.