تحققه في الطواف، هذا وجه الاستدلال بهذه الآية، وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب، ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه.
أما قوله تعالى: * (وأمنا) * أي موضع أمن، ثم لا شك أن قوله: * (جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) * خبر، فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر، وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر.
أما القول الأول: فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * (العنكبوت: 67) وقوله: * (أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء) * (القصص: 57) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم، لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه، وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * (البقرة: 191) فأخبر عن وقوع القتل فيه.
القول الثاني: أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل، والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمنا من الغارة والقتل، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية متمسكين بتحريمه، لا يهيجون على أحد التجأ إليه، وكانوا يسمون قريشا: أهل الله تعظيما له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب، ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها كما كانت "، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المعنى: أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه: إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز، واحتج الشافعي رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه، قال الشافعي رحمه الله: وهذا في الوقت الذي كانت مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية، والجواب عنه أن قوله: * (وأمنا) * ليس فيه بيان أنه جعله أمنا فيماذا فيمكن أن يكون أمنا من القحط، وأن يكون أمنا من نصب الحروب، وأن يكون أمنا من إقامة الحدود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على