الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة، وأنهم ماتوا على هدى ونور، فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم. وثالثها: أن قوله: * (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم) * (آل عمران: 170) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث. ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته: " وأعوذ بك من عذاب القبر ". وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله: أنهم أحياء أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) * (النساء: 69) فأرادهم بالذكر تعظيما.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر. وسادسها: أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه، واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال: * (بل أحياء عند ربهم) * (آل عمران: 169) وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة. والجواب: لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر، واعلم أن في الآية قولا آخر وهو: أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، وهذا القول بناء على معرفة الروح، ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول: إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس، أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين:
الوجه الأول: أن أجزاء هذا الهيكل أبدا في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره، والباقي غير ما هو غير باق، والمشار إليه عند كل أحد بقوله: * (أنا) * وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.
الوجه الثاني: أني أكون عالما بأني أنا حال ما أكون غافلا عن جميع أجزائي وأبعاضي، والمعلوم غير ما هو غير معلوم، فالذي أشير إليه بقولي (أنا) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض، وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو