يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه. أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: * (من بعد ما جاءك من العلم) * (البقرة: 145) والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة. وثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى. وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
أما قوله تعالى: * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * فوصف البعض بذلك، ودل بقوله: * (ليكتمون الحق) * على سبيل الذم، على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المكتوم فقيل: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة. أما قوله: * (الحق من ربك) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: يحتمل أن يكون (الحق) خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق، وقوله: * (من ربك) * يجوز أن يكون خبرا بغير خبر، وأن يكون حالا، ويجوز أيضا أن يكون مبتدأ خبره: * (من ربك) * وقرأ علي رضي الله عنه: (الحق من ربك) على الإبدال من الأول، أي يكتمون الحق من ربك.
المسألة الثانية: الألف واللام في قوله: * (الحق) * فيه وجهان: الأول: أن يكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى الحق الذي في قوله: * (ليكتمون الحق) * أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن يكون للجنس على معنى: الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل.
أما قوله: * (فلا تكونن من الممترين) * ففيه مسألتان: