كثير من الشافعية بأن الغني الشاكر أفضل وأما قول أبي علي الدقاق شيخ أبي القاسم القشيري الغني أفضل من الفقير لان الغنى صفة الخالق والفقر صفة المخلوق وصفة الحق أفضل من صفة الخلق فقد استحسنه جماعة من الكبار وفيه نظر لما قدمته أول الباب ويظهر منه ان هذا لا يدخل في أصل النزاع إذ ليس هو في ذات الصفتين وانما هو في عوارضهما وبين بعض من فضل الغني على الفقير كالطبري جهته بطريق أخرى فقال لا شك أن محنة الصابر أشد من محنة الشاكر غير أني أقول كما قال مطرف بن عبد الله لان أعافى فاشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر (قلت) وكأن السبب فيه ما جبل عليه طبع الآدمي من قلة الصبر ولهذا يوجد من يقوم بحسب الاستطاعة بحق الصبر أقل ممن يقوم بحق الشكر بحسب الاستطاعة وقال بعض المتأخرين فيما وجد بخط أبي عبد الله بن مرزوق كلام الناس في أصل المسئلة مختلف فمنهم من فضل الفقر ومنهم من فضل الغنى ومنهم من فضل الكفاف وكل ذلك خارج عن محل الخلاف وهو أي الحالين أفضل عند الله للعبد حتى يتكسب ذلك ويتخلق به هل التقلل من المال أفضل ليتفرغ قلبه من الشواغر وينال لذة المناجاة ولا ينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر به من التقرب بالبر والصلة والصدقة لما في ذلك من النفع المتعدي قال وإذا كان الامر كذلك فالأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه من التقلل في الدنيا والبعد عن زهراتها ويبقى النظر فيمن حصل له شئ من الدنيا بغير تكسب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى إخراجه في وجوه البر حتى لا يبقى منه شئ أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدي قال وهو على القسمين الأولين (قلت) ومقتضى ذلك أن يبذل إلى أن يبقى في حالة الكفاف ولا يضره ما يتجدد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة بالمشهور من أحوالهم فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة مع الاتصاف بغنى النفس ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك فكان لا يبقي شيا مما فتح عليه به وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك فأخبارهم في ذلك لا تحصى كثرة وحديث خباب في الباب شاهد لذلك والأدلة الواردة في فضل كل من الطائفتين كثيرة فمن الشق الأول بعض أحاديث الباب وغيرها ومن الشق الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه ان الله يحب الغني التقي الخفي أخرجه مسلم وهو دال لما قلته سواء حملنا الغني فيه على المال أو على غنى النفس فإنه على الأول ظاهر وعلى الثاني يتناول القسمين فيحصل المطلوب والمراد بالتقى وهو بالمثناة من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به واجتنابا للمنهى عنه والخفي ذكر للتتميم إشارة إلى ترك الرياء والله أعلم ومن المواضع التي وقع فيها التردد من لا شئ له فالأولى في حقه أن يتكسب للصون عن ذل السؤال أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسئلة فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن ذلك الزم السوق وقال الآخر استغن عن الناس فلم أر مثل الغنى عنهم وقال ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله وأن يعودوا أنفسهم التكسب ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا نقله عنه أبو بكر المروزي وقال أجرة التعليم والتعلم أحب إلي من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس وقال أيضا
(٢٣٥)