التوحيد - المفضل بن عمر الجعفي - الصفحة ١٠
تأمل الصواب، والحكمة فيما ذرأ (1) الباري جل قدسه، وبرأ (2) من صنوف خلقه في البر، والبحر، والسهل، والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود، حتى أنكروا خلق الأشياء، وادعوا تكونها بالإهمال، لا صنعه فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر، ولا صانع، تعالى الله عما يصفون، وقاتلهم أنى يؤفكون (3) فهم في ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغني عنها، ووضع كل شئ من ذلك موضعه على صواب من التقدير، وحكمة من التدبير، فجعلوا يترددون فيها يمينا وشمالا، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا، محجوبة أبصارهم عنها، لا يبصرون بنية الدار، وما أعد فيها وربما عثر بعضهم بالشئ الذي وضع موضعه، وأعد للحاجة إليه، وهو جاهل للمعنى ولما أعد ولماذا جعل كذلك؟ فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها. فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة. فإنهم لما غربت (4) أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى، فلا يفهمون ما هو عليه من اتقان خلقته، وحسن صنعته، وصواب هيئته. وربما وقف بعضهم على الشئ يجهل سببه، والأرب (5) فيه، فيسرع إلى ذمه ووصفه بالإحالة والخطأ، كالذي أقدمت عليه المنانية (6) الكفرة، وجاهرت به

(١) ذرأ الله الخلق: خلقهم.
(٢) برأه: خلقه من العدم.
(٣) أي ينصرفون عن الحق.
(٤) أي غابت.
(٥) الأرب: بالفتح - المهارة أو الحاجة.
(٦) أو المانوية: هم أصحاب الحكيم الفارسي ماني بن فاتك الذي ظهر في أيام سابور (ثاني ملوك الدولة الساسانية) ومذهبه مزيج من المجوسية والنصرانية، وقد تبعه في معتقده خلق كثير، وبقي قسم كبير منهم في الدور العباسي الأول ثم تسربت آراؤه إلى أوروبا وبقية الأقطار الآسيوية. وماني هذا كان راهبا بحران ولد حوالي عام ٢١٥ م وقتله بعدئذ بهرام بن هرمز. أنظر في ذلك الملل والنحل للشهرستاني ج ٢ ص ٨١ ومروج الذهب ج ١ ص ١٥٥، والفهرست ص ٤٥٦، ومعرب الشاهنامة ج 2 ص 71 والفرق بين الفرق ص 162 و 207، والآثار الباقية للبيروني ص 207، وتاريخ الفكر العربي لإسماعيل مظهر ص 39، وحرية الفكر لسلامة موسى ص 55.
(١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 ... » »»
الفهرست