ويتلاشى له البشاشة ويخمد لهيب ذلك الاشتياق والهيجان وربما يصير عين ما هو المحبوب وبالا وآفة على المحب ومرضا وعلة له كما نشاهد من حدوث الأمراض والعلل من اكل الحلاوات والدسومات ومن كثره المجامعة ورب معشوق آدمي صار من اعدى الأعداء وأوحش الأشياء عند محبه الا المحبين لله والمؤمنين بآياته والمشتاقين إلى لقائه من عباده وأوليائه الصالحين فان لهم كل يوم من محبوبهم قربه وكلما قربوا منه ازداد شوقهم وقوى عشقهم وكلما ازداد الشوق ازداد القرب وهكذا أبد الآباد كما ذكر الله والذين آمنوا أشد حبا لله وقال نورهم يسعى بين أيديهم وبايمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وأشار إلى حال المحبين سواه بقوله كسراب بقيعه يحسبه الظمآن ماء ا حتى إذا جاء ه لم يجده شيئا.
ثم عطف نحو محبيه فذكر حالهم وكنى عن ذكرهم بوصف حالهم فقال ووجد الله عنده فوفاه حسابه وذلك لان الدنيا وصورها الكونية عند العارف البصير بمنزله مرائي ومظاهر للحقائق القدسية والصفات الإلهية وكما أن الناظر في السراب إذا كان عارفا يعلم أن ما يشاهد فيه هو صوره السماء لا صوره الماء كما بين في موضعه فكذلك العارف المحقق يعلم أن الوجود الذي يتراءى في هذه الموجودات العالمية ليس الا انحاء تجليات الحق وظهورات كمالاته وأسمائه في مظاهر الأكوان ومرائى الأعيان.
واعلم أن الغرض الأقصى والحكمة الأسنى من وجود العشق في نفوس الظرفاء ومحبتها لحسن الأبدان وزينه الاشكال انما هو لان تتنبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وترتاض بها مده وتخرج من القوة إلى الفعل وتترقى من الأمور الجسمانية إلى الأمور النفسانية ومنها إلى محاسن الأمور الدائمة الكلية وتتشوق إلى لقاء الله ولذات الآخرة ولتعرف من هذه الدلالات شرف جوهرها وكمال عنصرها ومحاسن عالمها وصلاح معادها وذلك لان جميع المحاسن وكل المشتهيات المرغوبة للنفس التي نراها على ظواهر الأجسام وسطوح الأبدان جعلت دلالات على المحاسن الأخروية ومثلا للصور البهية الروحانية كيما إذا نظرت إليها النفوس الجزئية حنت إليها وتشوقت نحوها وإذا وصلت إليها تعمقت في ادراك كنهها وحدها بالنظر والتدبر فيها والاعتناء لأحوالها لينتزع صورها