ونزل القوم ناحية عنه، وقام سعيد يصلي وهو مع ذلك لا يأكل ولا يشرب، حتى إذا أصبح القوم وصلوا حملوه حتى دخلوا مدينة واسط والناس ينظرون إليه، فأتي به إلى باب الحجاج، ودخل إسماعيل بن الأوسط فقال: أصلح الله الأمير! قد جئتك بسعيد بن جبير، وقد والله رأيت منه شيئا ما ظننت أن يكون لاحد في هذا الدهر، قال الحجاج: وما ذلك؟ فحدثه إسماعيل بما رأى من صومه وصلاته وخشوعه، وما رأى من الأسد واللبوة، قال: فزبره الحجاج وقال: أخرج فأتني به، قال: فأدخل سعيد بن جبير على الحجاج، فلما نظر إليه قال: لا مرحبا بك يا رأس النفاق! فقال سعيد: المنافق من كان من شيعة المنافقين، قال الحجاج: صدقت يا شقي!
قال: بل أنا سعيد بن جبير، [قال الحجاج]: بل أنت شقي بن كسير، قال سعيد: أمي كانت أعرف بي منك، قال الحجاج: لقد شقيت أمك حين ولدتك، قال سعيد: الغيب (1) يعلمه غيرك، قال الحجاج: يا عدو نفسه! ألم أقدم العراق وأنت بها فقربت منزلك ورفعت مرتبتك؟ ثم بلغني عنك علم وفقه فزدتك في عطائك؟ قال سعيد: قد كان ذلك يا حجاج! قال: فما الذي أخرجك علي؟ قال:
بيعة كانت في عنقي لابن الأشعث فلم أر نقضها، قال: فغضب الحجاج ثم قال: يا عدو نفسه! فبيعة أمير المؤمنين كانت أحرى أن تفي بها من بيعة ابن الأشعث حوالي كندة، والله لأذيقنك (2) حياض الموت، ولأبدلنك بالدنيا نارا تلظى! قال سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. قال الحجاج: يا عدو نفسه! ما تقول في خلفاء بني أمية؟ قال: [لست] (3) عليهم بوكيل، ولا أقول ما لا أعلم. قال: فأي رجل أنا عندك؟ قال سعيد: يوم القيامة تعلم ذلك! قال الحجاج: فأحب أن تعلمني!
قال سعيد: أنا أهون على ربي من أن يطلعني على غيبه، قال الحجاج: فإنه لابد لك من أن تصدقني من نفسي، قال سعيد (4): لا أحب أن أكذب، وأنت عندي رجل سوء. قال الحجاج: خبرني عنك ما بالك لا تضحك قط؟ قال: إني لم أر شيئا يعجبني فأضحك منه، وكيف يضحك مخلوق ولا يدري أتمسيه المنية أم تصبحه! ثم لا يدري بعد ذلك إلى الجنة يصير أم إلى النار! قال الحجاج: أصدقني