أبلغا عني الحسين الوكا * ان ذا الطود بعد عهدك ساخا والشهاب الذي اصطليت لظاه * عكست ضوءه الخطوب فباخا والفنيق الذي تدرع طول الأرض * أضوى به الردى فأناخا والعقاب الشعواء أهبطها النق * وقد أرعت النجوم سماخا أعجلتها المنون عنا ولكن * خلفت في ديارنا أفراخا وعلى ذلك الزمان بهم عاد * غلاما من بعد ما كان شاخا فلم يستطع الرضي أن يقول عند موت عضد الدولة أكثر من هذا ولا ان يصرح بشئ مما تكنه نفسه، سوى ان تلك العقاب تركت أفراخا يخاف منهم ما كان يخاف منها. وبقي أبوه معتقلا إلى سنة 326 فافرج عنه شرف الدولة بن عضد الدولة بعد انتصاره على أخيه صمصام الدولة، وكان عضد الدولة قد صادر املاك والد الشريف الرضي، وبذلك نعرف فضل والدته التي حفظته وأخاه وعلمتهما وأنفقت عليهما كل ما تملكه بعد مصادرة أموال أبيهما.
نشأته نشأ الرضي بين هذين الأبوين الجليلين منشأ عز وشرف وتربية صحيحة ورضع الإباء والشمم مع اللبن فهو يقول وهو طفل ابن عشر سنين لا شان لمثله الا اللعب:
المجد يعلم ان المجد من أربي * وان تماديت في غيي وفي لعبي اني لمن معشر ان جمعوا لعلا * تفرقوا عن نبي أو وصي نبي إذا هممت ففتش عن شبا هممي * تجده في مهجات الأنجم الشهب وان عزمت فعزمي يستحيل قذى * ترمى مسالكه في أعين النوب وتعلم في نشأته العلوم العربية وعلوم البلاغة والأدب والفقه والكلام والتفسير والحديث على مشاهير العلماء ببغداد كأبي الفتح عثمان بن جنى من أئمة العربية في عصره تعلم عليه العلوم العربية، وأبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد تعلم عليه الفقه وعلوم الحديث والتفسير والكلام وغيرها. ونظم الشعر من صباه فجاء مجليا في حلبته.
شاعريته نظم الشريف الرضي الشعر في عهد الطفولية ولما يزد عمره عشر سنين فأجاد ونظم في جميع فنون الشعر فأكثر، وجاء محلقا محرزا قصب السبق بغير منازع. ولم يكن في ناحية من نواحي الشعر أشعر منه في غيرها مما دل على غزارة مادته، وانه كان ينظم قصائده بمنحة نفسانية قلما تؤثر بها العوامل الخارجية. وامتاز الرضي بان شعره على كثرته لابس كله ثوب الجودة والملاحة وهذا قلما يتفق لشاعر مكثر، بل لم يتفق لغيره، فإننا نرى تلميذه وخريجه مهيار الديلمي قد أكثر من نظم الشعر ولكن قصائده لم تكن متناسقة متناسبة في الجودة بخلاف قصائد الرضي. وإذا نظرنا إلى شعر المتنبي المتقدم عليه في العصر نجده مع ما للمتنبي من المكانة السامية في الشعر يشتمل على سقطات لا تقع من أداني الشعراء فلا غرو إذا فضل مفضل شعر الرضي على شعر المتنبي.
وإذا تأملنا في شعر الشريف الرضي وجدناه منطبعا بطابع لا يوجد في غيره ويعسر علينا وصفه والتعبير عنه. فان حسن الشعر بمنزلة الجمال في الانسان، فمن نظر إلى الوجه الجميل من اهل الأذواق علم أنه جميل، ولكن يعسر عليه ان يبين أسباب جماله، وتفاصيلها، وكذلك إذا استمع ذو الطبع المستقيم إلى القصيدة الجيدة عرف انها من الشعر الجيد وصعب عليه ان يفصل الأسباب في جودتها ولعله إلى ذلك ينظر كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع حين سئل عن أشعر الشعراء فقال: ان القوم لم يجروا في حلبة واحدة فيعرف السابق منهم، فإن كان ولا بد فالملك الضليل. فشعر الرضي مطبوع بطابع من البلاغة والبداوة والبراعة وعذوبة اللفظ والأخذ بمجامع القلوب وغير ذلك من المميزات لا تكاد تجده في غيره ولا نكون بعيدين عن الصواب إذا قلنا إن الشريف الرضي بين الشعراء أمة برأسه. ومما امتاز به شعر الشريف انه نقي من كل ما يتعاطاه الشعراء من الغزل المشين والهجاء المقذع والتلون بالمدح تارة والذم أخرى. ولا يليق بنا ان نمدح الشريف الرضي بان شعره خال من المجون الذي كان شائعا في ذلك العصر فهو أجل قدرا وارفع شانا من أن نمدحه بذلك. كما أن شعره خال من وصف الخمرة، وان وصفها كثير من الشعراء الذين لا يتعاطونها، ولكن الشريف لم يصفها الا بسؤال من سأله ذلك على لسان بعض الناس، فوصفها بعدة أبيات لم يصفها بغيرها.
إباؤه وعظمة نفسه كان الشريف الرضي كما يظهر من كثير من شعره يطمح إلى الخلافة، وكان أبو إسحاق الصابي يطمعه فيها، وكان يسامي خلفاء بني العباس ويرى أنه أحق بالخلافة منهم، ولا يكترث بهم فهو يقول:
صاحت بذودي بغداد فآنسني * تقلبي في ظهور الخيل والعير أطغى على قاطنيها غير مكترث * وافعل الفعل منها غير مأمور ومن هم الذين يطغى عليهم من قاطني بغداد ولا يأتمر بأمرهم غير الخلفاء والملوك، ولكنه لم يقصر في مدح الخلفاء المبالغة وهو الذي حكى عنه الوزير أبو محمد المهلبي انه ولد له غلام فأرسل اليه الوزير يطبق فيه ألف دينار فرده وقال: قد علم الوزير اني لا اقبل من أحد شيئا، فرده الوزير اليه وقال: انما أرسلته للقوابل، فرده ثانية وقال: قد علم الوزير انه لا تقبل نساءنا غريبة، فرد، اليه وقال: يفرقه الشريف على ملازميه من طلاب العلم، قال ها هم حضور فليأخذ كل أحد ما يريد، فقام أحدهم فقرض قطعة من جانب دينار ورد الدينار إلى الطبق فسأله الشريف عن ذلك، فقال: احتجت إلى دهن للسراج ليلة ولم يكن الخازن حاضرا فافترضت دهنا من البقال واخذت هذه القطعة لأدفعها اليه. وكان طلبة العلم الملازمون للرضي في دار قد اتخذها لهم سماها دار العلم وعين لهم ما يحتاجون اليه. فلما سمع ذلك امر ان يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة ورد الطبق، وكفى في إبائه وعظمة نفسه أشعاره الكثيرة في الفخر والحماسة وسيأتي طرف منها.
شجاعته وثباته على المبدأ وتضحيته لما كتب الخلفاء العباسيون محضرا بالقدح في نسب الفاطميين، وكتب فيه القضاة والعلماء من اهل بغداد، وكان الداعي اليه السياسة، كما هو معلوم في كل عصر وزمان، أبى الشريف الرضي ان يكتب فيه مع أنه كتب فيه أخوه المرتضى وأبوهما النقيب أبو أحمد والشيخ المفيد وسائر العلماء والقضاة، وما ذكره بعض المؤرخين من أن الرضي كتب فيه أيضا ليس بصواب، لأنه لما شاعت هذه الأبيات التي يقول فيها:
ما مقامي على الهوان وعندي * مقول صادق وانف حمي وإباء محلق بي عن الضيم * كما زاع طائر وحشي