ان يكون الخلفاء والملوك تصله منهم بعض الصلات وخصوصا صديقه الحميم الطائع، لكن لا بالطريقة التي كان ينتحيها سائر الشعراء فتكون الصلات هي هدفهم الوحيد في المديح وإذا لم يصلوا إلى هذا الهدف لجأوا إلى الهجاء والذم بالحق والباطل، فالشريف الرضي كان منزها عن هذه الطريقة، فهو يقول في الطائع:
رأي الرشيد وهيبة المنصور في * حسن الأمين ونعمة المتوكل نسب إليك تجاذبت أشياخه * طولا من العباس غير موصل هذي الخلافة في يديك ذمامها * وسواك يخبط قصر ليل أليل شعره في الرثاء وهو يشبه شعره في المديح وجله كان وفاء لأصدقائه، بعيدا عن الطمع بالصلات.
وقالت مجلة العربي:
بعد أن توفي أبو الطيب المتنبي في سنة 354 ه، وكان في حياته مالئ الدنيا وشاغل الناس، ظلت اخباره الكثيرة وأشعاره الوفيرة شغلا شاغلا لكثير من العلماء والنقاد والكتاب يستقصون هذه الأخبار في تصنيفها وشرحها وتفسيرها، ويتجادلون في ذلك ويتمارون مراء شديدا. وكان أبا الطيب كان على علم بما سيكون من بعده حين قال:
أنام مل ء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم في هذه الفترة، وبعد وفاة أبي الطيب بخمس سنوات، ولد ببغداد أبو الحسن، محمد بن الحسين بن موسى، الملقب بالشريف الرضي.
الذي يتصل نسبه بموسى الكاظم والحسين بن علي بن أبي طالب، ولذلك يعرف بالموسوي.
نشأ الرضي، ذو الحسبين كما لقبه الملك بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي سنة 369 ه في بيت يتسم بالمجد والشرف والحسب والنسب، فنال من ذلك كله حظه فيه، واخذ نفسه في سن مبكرة بما يأخذ به أمثاله أنفسهم من الانصراف إلى التعلم وحفظ القرآن والحديث ودراسة الفقه الاسلامي والشعر والنثر، فتتلمذ على نفر من جلة العلماء وأفاضلهم في ذلك العصر من أمثال أبي سعيد السيرافي، وأبي الفتح عثمان بن جني، وأبي علي الفارسي، والقاضي عبد الجبار، وأبي بكر الخوارزمي وغيرهم ممن يبلغ عددهم بضعة عشر أستاذا، تلقى على أيديهم علوم العربية والعلوم الاسلامية المختلفة.
وتشير الأخبار إلى أنه بكر تبكيرا شديدا في حضور جلسات العلم والعلماء وأظهر فيها نجابة ملحوظة، حتى ليروى انه احضر إلى أبي سعيد السيرافي، العالم النحوي المشهور، وهو صبي لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو. وكان السيرافي، والحاضرون يعجبون من ذكائه وحدة خاطره. كما يروى انه تلقن القرآن في سن مبكرة فحفظه في مدة يسيرة، ثم درسه دراسة أمكنته من أن يصنف بعد ذلك كتابا في معاني القرآن الكريم يوصف بأنه يتعذر وجود مثله. ودل على توسعه في علم النحو واللغة. وصنف كتابا في مجازات القرآن فجاء نادرا في بابه. ويقول محقق الكتاب الأخير انه يقوم في التراث العربي الاسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة من التاليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته، ولم يأت عرضا في خلال كتاب، أو بابا من أبواب مصنف.
هذه الشواهد تدلنا في سرعة على أن الشريف الرضي امتاز بشخصية جادة في الحياة اخذت نفسها اخذا شديدا بأسباب الجد في الدرس والعلم والتحصيل، وذلك في السن التي يكون فيها أضرابه وأترابه في العمر لا يزالون يلعبون لعب الصبية ويلهون لهو من لم يشبوا عن الطوق.
يواكب ذلك النبوع والذكاء في هذا التطور من حياة الرضي ملكة مبكرة وموهبة فنية نادرة، تلك هي شاعريته المصقولة المهذبة النامية، التي تؤكد الروايات والأخبار انها بدأت تؤتى ثمارها من الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. ونحن نقرأ شعره هذا الذي تنص الروايات على أنه من أوائل أشعاره فنجده شعرا، رصينا قويا لا تنقصه أسباب الصقل والتهذيب، ولا يقل في جودته عن شعره المتأخر من حيث النسج والصياغة والبناء.
هذه الموهبة الفنية ظلت تفيض في حياة الرضي وهي حياة ليست طويلة، حتى ملأت ديوان شعر كان يوصف في عصره بأنه ديوان كبير، يدخل في أربع مجلدات، وبأنه مشهور بين الناس كثير الوجود... وحتى اتفق النقاد والعلماء على أن الرضي أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر. على كثرة شعرائهم المفلقين. ولو قيل إنه أشعر قريش لم يجاوز ذلك الصدق، لأن قريشا كان فيها من يجيد القول، اما الشعر فقل في قريش مجيدوه، فاما المجيد المكثر فليس الا الشريف الرضي.
وهذه الشاعرية الفياضة المبكرة لا ينبغي ان ننسى انه كان بجانبها عقلية دارسة فاحصة أنتجت دراسات قيمة في القرآن والحديث والنقد والبلاغة والتاريخ، نذكر منها بالإضافة إلى كتابيه السابقين في معاني القرآن ومجازات القرآن، المجازات النبوية، وخصائص الأئمة، واخبار قضاة بغداد، وسيرة والده، وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، وكتاب رسائله، والحسن من شعر الحسين بن الحجاج، ونهج البلاغة الذي جمعه من كلام الإمام علي بن أبي طالب.
وتطالعنا في عقلية الرضي، كما تطالعنا في شاعريته، خاصة واضحة تبدو بجلاء فيما وصل الينا من كتبه، هي حريته في التفكير واستقلاله في الرأي وانطلاقه في التعبير عما يرى ويستقر رأيه عليه ويناقش في حرية وغير تعصب آرائه وآراء غيره، لا يقيده في ذلك كله، سواء في شعره أو في نثره، غير قيد واحد، ان صح ان يكون تمسكه بعروبته وأصالته العربية قيدا.
لا جرم، فالرضي من أشرف العرب نسبا، واعتزازه بعربيته واعتداده بتفكيره العربي امر واجب مقدس في نظره، يفرضه عليه نسبه العربي العريق، كما أن ثقافته العربية الخالصة التي تعتمد على مصادر عربية اسلامية صافية من القرآن والحديث وتاريخ العرب وتراثهم في النثر والشعر جميعا، ونفوره من الثقافة الأجنبية التي انحدرت في محيط الثقافة العربية، كل ذلك جعلنا نحكم على ثقافته ونصفها بأنها ثقافة دينية عربية وانها ليست فلسفية أو علمية أو أجنبية.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الرضي كان من الرواة العرب المعدودين البارزين في المحيط العربي والمجال الاسلامي، بما كان يليه من أمور العرب وأمور المسلمين، حيث صارت اليه ولاية نقابة الطالبيين والحكم فيهم