أجمعين، والنظر في المظالم والحج بالناس، وكانت كل هذه الأعمال لأبيه فصارت اليه في حياة أبيه سنة 380 ه وعمره لم يتجاوز الحادية والعشرين، ثقة من السلطان ومن أبيه ومن عامة الذين ولى امرهم فيها، واطمئنانا منهم إلى رجاحة عقله ووفرة ذكائه وحكمته، مما جعل الثعالبي يصفه بقوله وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وانجب سادة الطرق، يتحلى مع محتده الشريف، ومفخرة المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر.
وإذا أضفنا كذلك ما هو معروف من أسباب الصراع السياسي والاجتماعي حينذاك بين الفرس الذين استولوا على السلطان جميعه، وبين العرب الذين أحسوا بضياع نفوذهم وهيبتهم. إذا أضفنا هذا وإذا استطعنا من زاوية أخرى ان نفسر سر تمسك الرضي بعروبته وسر تمكن هذه العربية من طريقته في التفكير والتعبير، ذلك التمكن الذي يشبه القيد، بحكم نسبه العربي الأصيل وثقافته العربية الخالصة ومنصبه العربي الطالبي، والصراع السياسي الاجتماعي بين العرب والفرس.
شعر الرضي مرآة تعكس شخصيته وتصور عصره وشعر الشريف الرضي هو المرآة التي تنعكس عليها كل الملامح السابقة فتكشف لنا بوضوح كل ما فيها من جوانب وتفصيلات، وهو الذي يعطينا صورة صادقة لسمات شخصيته من ناحية، وسمات عصره وبيئته وثقافته من ناحية أخرى بحيث يصلح الكثير من شعره ان يكون من الوسائل القيمة التي تعين على فهم كثير من احداث هذا العصر واخباره.
وأول ما يطالعنا في هذا الشعر، في قوة ووضوح، هو أرستقراطية الشريف الرضي العربية التي تحدثنا عن أسبابها ومقوماتها، وهي تطالعنا في الفنون والأغراض التي طرقها، واهم هذه الفنون في ديوانه دون شك:
الفخر والرثاء.
اما الفخر فيعتمد عنده قبل كل شئ على هذه الأرستقراطية العربية التي تجري في دمه، ثم على منزلته ومنزلة بيته في المجتمع الاسلامي، ثم على الصفات العربية التليدة المأثورة، من شجاعة واقدام وعدم مبالاة بالأخطار وبالموت، ومن كرم ونجدة وإغاثة، ومن وفاء وحسن جوار ولطف معاشرة، ومن حلم ووقار وقوة احتمال وعفة في القول والعمل... ولا عجب ان يكون الفخر من الفنون المبكرة جدا في حياته الفنية، إذ نجد في ديوانه قصيدة في هذا الغرض، قالها وله عشر سنين منها:
المجد يعلم ان المجد من أربى * ولو تماديت في غي وفي لعب اني لمن معشر ان جمعوا لعلي * تفرقوا عن نبي أوصى نبي ومن القصائد الرائعة في هذا الباب، وهي تجمع كثيرا من مقومات فن الفخر عنده من حيث المعاني والصياغة إلى جانب طول نفسه فيها قصيدته التي يقول فيها:
لغير العلى مني القى والتجنب * ولولا العلى ما كنت في الحب ارغب ملكت بحلمي فرصة ما استرقها * من الدهر مقتول الذراعين أغلب فان تك سنى ما تطاول باعها * فلي من وراء المجد قلب مدرب وللحلم أوقات، وللجهل مثلها * ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب ولا اعرف الفحشاء الا بوصفها * ولا انطق العوراء والقلب مغضب لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى * إذا نال مني العاضة المتوثب وديوان الشريف الرضي يضم بين دفتيه قصائد في المديح، يمدح بها بعض الملوك والحلفاء في عصره، ولكن أغلب مدائحه في أبيه وفي اهل بيته، وهي ألصق بفن الفخر لأنه إذا مدح أباه أو اهل بيته فهو انما يفخر بهم وبنسبه، وحتى إذا مدح الخليفة أو غيره، فهو انما يتخذ ذلك تكئة يعتمد عليها ويتوسل بها إلى الفخر فيقول للخليفة القادر:
عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا، كلانا في المعالي معرق الا الخلافة ميزتك، فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق الرثاء في شعر الرضي وأما الرثاء فهو القيثارة المحببة لدى الرضي، يعزف عليها ألحانه الشجية الحزينة كلما مات فرد من أقاربه وأهل بيته، سواء في ذلك صغيرهم وكبيرهم، الذكر منهم والأنثى، بل تستبد به هذه النزعة الأرستقراطية العربية فتأخذه اخذا إلى الوراء في مواضي الليالي وسوالف الأيام ليفيض من هذه الألحان الباكية على من رحلوا من اهل بيته الأبعدين والأقربين. لا سيما الحسين بن علي، الذي رثاه أكثر من مرة، وبكاه بكاء حارا بدمع ساخن مدرار.
الرضي رثى الشيعي وغير الشيعي والعربي وغير العربي والمسلم وغير المسلم وأغلب الظن ان نفس هذه النزعة هي التي كانت تملي عليه ان يكون وفيا، فيمسك بنفس القيثارة، وما أسرع ما كان يمسكها، ليبكي أناسا آخرين من غير اهل بيته، تربطهم به علاقة الصداقة أو الزمالة في العلم أو في الشعر، أو استأذتهم له. ومن حق الرضي ان نسجل له في هذا المقام صفة مهمة في شخصيته هي تحرره من كل عصبية، وخاصة في باب الصداقة أو باب الزمالة في الأدب والعلم، إذ لم يكن يفرق في هذا المجال بين شيعي على مذهبه وغير شيعي، ولا بين عربي وغير عربي، بل لم يكن يفرق بين مسلم وغير مسلم، حين بكى صديقه أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وهو على دين الصابئة، على حين كانت تجمع بينهما صناعة الأدب وكانت بينهما مراسلات بالشعر والنثر. وقصيدة الرضى في رثاء الصابي تعد من أروع قصائده في الرثاء ومطلعها:
أ علمت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي جبل هوى لو خر في البحر اغتدى * من وقعة متتابع الأزباد ما كنت اعلم قبل حطك في الثرى * ان الثرى يعلو على الأطواد ولقد رثاه الشريف بأكثر من قصيدة، ولم يعبأ بما وجه اليه من لوم في ذلك.
ولعله ليم كذلك على رثائه الحسين بن أحمد بن الحجاج الشاعر الماجن المشهور، لبعد ما بينهما في السلوك والخلق، بقصيدة يقول فيها:
ليبك الزمان طويلا عليك * فقد كنت خفة روح الزمان ومما يؤكد هذه الصفة، وهذه الروح في الشريف الرضي انه رثى