من أن تراه، فأنشأ كثير:
رأت رجلا أودى السفار بجسمه * فلم يبق الا منطق وجناجن فتابعت قطام: لله درك ما عرفت الا بعزة تقصيرا بك، فأجاب: والله لقد سار لها شعري وطار بها ذكري وانها لكما قلت فيها:
وان خفيت كانت لعينك قرة * وان تبد يوما لم يعمك عارها من الخفرات البيض لم تر شقوة * وفي الحسب المحض الرفيع نجارها فما روضة بالحزن طيبة الثرى * يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من فيها إذا جئت طارقا * وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها فقالت له: والله ما سمعت شعرا أضعف من شعرك هذا. والله لو فعل هذا بزنجية لطاب ريحها ثم استطردت: ألا قلت كما قال أمرؤ القيس:
أ لم تراني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب عبقرية هذه المرأة انها استطاعت أن تقلب الحديث عن الجريمة التي ارتكبتها بحق أنبل انسان عرفه التاريخ، إلى الشعر، وقد خفيت هذه الحيلة على كثير، وقبل أن يدخل في موضوع لم يكن على استعداد لخوضه، فلحقته الهزيمة، والذي نعتقده أن هذا هو السبب الوحيد في تفوق قطام عليه.
الذي رواه الرواة عنه انه مر في بعض الأزمات التي تتطلب ذكاء حادا، ونظرة نفاذة ومن ذلك ما قيل عن لقاء بين عزة وبثينة رأتا في أثنائه كثيرا مقبلا على الخيمة، فطلبت بثينة من عزة أن تختفي حتى تقوم بامتحان له، فوافقت عزة على الامتحان، واختفت، وما ان وصل حتى ألقت عليه بثينة نظرة من تلك النظرات الفاتنة، فقال:
رمتني على عمد بثينة بعد ما * تولى شبابي، وأرجحن شبابها بعينين نجلاوين لو رقرقتهما * لنوء الثريا لاستهل سحابها وقبل أن يتم ظهرت عزة، فبقي مستمرا، ولم يتعتع:
ولكنما ترمين نفسا مريضة * لعزة منها صفوها ولبابها فعلى أي شئ يدل هذا التخلص المدهش؟ وهل يستطيع واحد غبي أن يزوع هذا الزوغان، أو يفلت من الشبك المنصوب هذه الفلتة؟
اللحظة مشحونة بما يبعث الارتباك والقلق، ومع ذلك ظل الشعر ماشيا وكان الشبك غير موجود، وذلك يدل على أن الرجل أبعد ما يكون عن الغباء. ولم يكن إخفاقه مع قطام إلا لأن ذهنه كان مشغولا في موضوع غير الموضوع الذي دخل فيه، وهذا هو السر في هزيمته.
على أن النقد الذي وجهته قطام إلى الأبيات السابقة، نقد مهلهل يدل على جهل بالشعر وجوهره.
ان الطيب الذي جعلت منه قطام نقطة الانطلاق، كان أبعد ما يكون عما فهمته، فقد فهمت أن الرائحة الطيبة التي تفوح من عزة كانت آتية من المندل الرطب لا من ذاتها. فهل تدل الأبيات على هذا الشئ الذي فهمته قطام؟ الشاعر لم يتحدث عن عزة، عند ما ذكر الطيب، وانما تحدث عن فمها ولم تكن الروضة التي يمج جثجاثها الندي بأطيب من عزة، بل من فمها، فأي علاقة لهذا الفم بايقاد النار بالمندل الرطب؟ لقد تمت الفكرة عند قوله بأطيب من فيها وما جاء بعده يشير أو ربما يشير إلى نوع من الترف. فالمندل الرطب من الأعواد الغالية، والتي توقد نارها به لا بد وأن تكون على جانب من النعيم. والذي نراه أن المندل الرطب يقترب من نؤوم الضحى عند امرئ القيس التي تدل على النعيم والبلهنية، لا ما فهمته قطام، وردت عليه ذلك الرد الذي ظنت أنها انتصرت فيه إلى الأبد.
ونقد ثالث تعرض له الشاعر. وقد كانت عزة نفسها هذه المرة هي الناقدة، وابتدأ النقد بالموازنة بينه وبين الأحوص، وكان رأيها أن الأحوص ألين جانبا منه ثم كانت الأمثلة حتى انتهت إلى قول كثير فيها:
وددت، وبيت الله، انك بكرة * هجان وأني مصعب ثم نهرب كلانا به عر فمن يرنا يقل * على حسنها جرباء تعدي وأجرب نكون لذي مال كثير مغفل * فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب إذا ما وردنا منهلا صاح أهله * علينا، فما ننفك ننفى ونضرب وإذا أخذت هذه الأبيات مجردة عن ظروفها، كانت في الواقع أمنية من أغرب الأماني التي عرفها تاريخ العشاق. ولكن النظرة تتغير أو قد تتغير إذا أخذت الظروف بعين الاعتبار. فما الظروف التي تدل عليها الأبيات؟ الظروف تتعلق بالحياة الاجتماعية، فالناس في كل وقت يحبون، ويمر معظمهم إن لم يكن كلهم بالتجربة، ولكن حتى هؤلاء الذين تختلج قلوبهم بالعواطف ينكرون على العشاق لقاءهم، ويرون فيه تحديا للمجتمع وقوانينه المقدسة. والحب يصل أحيانا إلى درجة الغليان، فإذا بلغ هذا المستوى طلب الاطفاء واللقاء نوع من الماء البارد، ولكن العيون لا تلبث أن تتحرك، وتحرك فيها الغمزات، وتتحرك معها الرقابة الشديدة، والكلمات الواشية النمامة. وقد عبر عن شئ من هذه الظاهرة عروة:
إذا ما جلسنا مجلسا نستلذه * تواشوا بنا حتى أمل مكاني وإذا كانت الوشاية تطارد عروة هذه المطاردة، وتجعله يتأفف ويدعو إلى الوشاة، فالذي لا ريب فيه أن الذي طارد كثيرا أكثر من وشاية، وأكثر من مضايقة حتى تمنى تلك الأمنية الغريبة.
في الناس من يستطيع أن يتحدى المجتمع، ويسخر من قوانينه إذا كان وراءه الجاه والمال والقوة، ولا يستطيع الناس أن يعملوا له شيئا. فقد تحداه أمرؤ القيس، مثلا، وتحدث عن النساء أحاديث غير لائقة، ولم يستطع المجتمع، على تزمته في عصره، أن يرميه بحجر، لأن وراء ملكا وبلاطا وجاها عريضا. وتحداه بعد امرئ القيس عمر بن أبي ربيعة، وتطاول حتى على بنات الملوك والأمراء، وظل آمنا، أما كثير وأمثاله فلم يكن لهم هذا الجبروت والعز ولذلك كان المجتمع يحاسبه حتى على اللقاء