الخروج على هذا الاجماع، وما عده في الغزلين الا ليخرجه منهم حسب تعبيره.
ونحن لا نتخذ من الاجماع سيفا نتصدى به للدكتور، ونقول له: كيف سوغت لنفسك الخروج على الاجماع، والاستهانة بالذوق العام؟ فقد يكون هذا القول سيفا من خشب، أو سكينة عتيقة بالية، والأسلحة الخشبية في المعارك الأدبية من الأسلحة المحطمة التي لا تستطيع أن ترتفع في وجوه الأقزام بله العمالقة!
وإذا كان الاجماع أحد الأدلة القاطعة في الأحكام الشرعية، فلا يمكن أن تكون له هذه القيمة في قضايا الأدب، والتفكير الأدبي، ولذلك كان من حق الدكتور أن يخرج على الاجماع، ويتخذ الرأي الذي يراه.
وليس من حقنا، كما قلت، ولا حق لأحد أن يتخذ من هذا الاعتراف سيفا يواجه به الدكتور. ولكن من حقنا أن نسأل الدكتور سؤالا متواضعا عن قوله في المقال نفسه: كان شاعرا ممتازا، وكان يذكر النساء فيحسن ذكرهن، فما معنى يحسن هذه؟ وفي أي شئ؟ وهل كان إحسانه في ذكرهن من باب إحسان المتنبي في ذكر بدر بن عمار، أو سيف الدولة، أو من باب إحسان حبيب في ذكر المعتصم؟ أم انه كان يحسن ذكر الجمال والهيام والولغ وما أشبه ذلك من المعاني الشائعة في الغزل؟ وإذا كان يحسن ذكرهن في المعاني المذكورة فعلى أي شئ يقوم الغزل إذا لم يكن قائما على هذه المعاني؟
لا نعتقد أن نساء كثير كن في مستوى مدام كوري في العلوم مثلا أو مستوى بلقيس أو فيكتوريا في إدارة الدولة حتى يكون احسانه في ذكرهن قائما على معاني المثابرة والصبر في اكتشاف أسرار الطبيعة، أو سياسة الدولة وادارتها وترقية الشعب والسهر على مصالحه وأي شئ في الشعر يهم المرأة التي كانت في عصر كثير حتى أعجبت به؟
أظن أن الجواب العلمي على هذه الأسئلة، كاف للدلالة على وقوع الدكتور في تناقض صارخ، وهو يثبت أن رأيه في آخر الموضوع الذي كتبه عن كثير يلغي رأيه في أوله، ثم يلغي كثيرا من الآراء التي ذكرها بحق الشاعر في هذا الموضوع.
وأما النفاق السياسي الذي وصفه به فقد نكون مع الدكتور فيه، ولكن إلى حد، فالمعروف عن كثير انه هاشمي الهوى والرأي، ولكنه كان في الوقت نفسه يمدح بني أمية، وقد عد الدكتور هذا الموقف نفاقا! ولا شك أن موقف كثير هذا موقف بين النقيضين حسب التعبير الفلسفي، ولا يمكن الدفاع عنه من ناحية المبدأ. ولكن يمكن أن يكون له عذر إذا أخذ من وجه آخر... من الوجه السياسي للدولة التي كانت دولة أوتوقراطية تعد على الناس أنفاسهم، وتحصي عليهم تنهداتهم، وتحسب حركاتهم حركة حركة.
معنى ذلك أن حرية الرأي أو القول كفر وخروج على الدين والايمان، وعلى الذي يرى رأيا غير رأي الدولة أن يحمل دمه على كفه، وأن يكون مستعدا للرحيل إلى المقابر. وكثير كان مؤمنا ببني هاشم، ومؤمنا بأنهم أحق من بني أمية، ولكنه لم يكن مستعدا حتى للتضحية بحياته في سبيل ذلك الايمان، على أنه في الوقت نفسه كان يصرح لكبار الأمويين بحبه لبني هاشم، وقد روى الدكتور نفسه عنه هذه الحادثة:
لما خرج عبد الملك لحرب مصعب بن الزبير لحظ في عسكره كثيرا يمشي مطرقا وكأنه حزين، فدعاه فسأله: أ تصدقني ان أنبأتك بما في نفسك؟ قال: نعم! قال: فاحلف بأبي تراب، فحلف كثير بالله ليصدقنه! فقال عبد الملك: لا بد من أن تحلف بأبي تراب فحلف له بأبي تراب. فقال عبد الملك: تقول في نفسك: رجلان من قريش يلقى أحدهما الآخر لحربه فيقتله، والقاتل والمقتول في النار، وما آمن أن يصيبني سهم فيقتلني، فأكون معهما! قال كثير: ما أخطأت، يا أمير المؤمنين!
فقال عبد الملك: عد من قريب، وأمر له بجائزة.
فهذا الموقف يدل، في أقل ما يدل عليه، ان الرجل لم يكن منافقا، بل كان بالرغم من عنف الاستبداد، على شئ من الصراحة وان مدح بني أمية.
وإذا كان مدح كثير لبني أمية نفاقا سياسيا فما رأي الدكتور بمدحه للملك فاروق لما تزوج فريدة؟ نحن نعرف أن الدكتور طه من حملة الألوية في الدعوة إلى الحرية، ونعرف انه رأيه السياسي يختلف عن رأي فاروق، ونعرف في الوقت ذاته أن فاروقا لا يمكن أن يكون سوى قزم إذا قيس بالدكتور طه حسين. وبالرغم من الفروق الهائلة بين عصري كثير وطه حسين، ومع الفروق الهائلة بين كثير وطه نفسيهما من حيث المستوى الثقافي والعقلي، فان الدكتور وقف أمام فاروق، موقف كثير ذاته الذي وقفه أمام بني أمية، وإذا أمكن أن يكون لكثير عذر في ذلك العصر المظلم، فأي عذر للدكتور طه في هذا العصر المنير؟
لقد تأسف الكثيرون يومئذ لموقف الدكتور، ودخوله في قافلة المداحين لملك تافه، وعدوه جبنا غير لائق بواحد مثله. ولو وقف يومها موقف المدافع عن رأيه، ورفض النزول إلى مدح واحد كفاروق، لهللت له الحرية في أنحاء الدنيا، ولكنه لم يفعل. بل كان قبل ذلك يلوم كثيرا على موقف وقف مثله فيما بعد! ثم عد موقف كثير من فصيلة النفاق السياسي.
نقد آخر تعرض له هذا الشاعر، ولكن ذلك كان في حياته وفي أيامه، لا بعد وفاته بقرون كما فعل الدكتور طه. فقد قدم الكوفة، وطلب الاجتماع ب " قطام " التي لعبت الدور الأكبر في اغتيال الإمام علي ع. ونهاه البعض عن ذلك، فما انتهى، ثم سال عن منزلها فدل عليه، وأخيرا وصل، ومذ رأته سالت: من الرجل؟ فقال: كثير بن عبد الرحمن فقالت: التيمي الخزاعي؟ فأجابها بالايجاب. ثم سألها:
أنت قطام؟ فقالت نعم: فتابع السؤال: أنت صاحبة علي بن أبي طالب ع فردت عليه: بل صاحبة عبد الرحمن بن ملجم وعندئذ قال:
والله اني كنت أحب أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، وما ومقك قلبي، ولا احلوليت في صدري، فردت عليه: أنت والله قصير القامة، صغير الهامة، ضعيف الدعامة، كما قيل لئن تسمع بالمعيدي خير