الليطاني صيدا وإقليم التفاح ومهما كان من معالي همم ذلك السلف الماجد فلا أظن أحدا منهم كان أعلى درجة من كامل بك رحمه الله لا سيما في الأريحية وحب البذل ولو عاش في الزمان الذي عاشوا فيه لاشتهر أكثر مما اشتهر في زمانه الحاضر ولم يتقلد كامل بك مناصب إدارية نظير أبيه ولا مال إليها وانما انتخب مبعوثا عن لواء بيروت منذ أعلن الدستور العثماني وهناك تأكدت بيننا روابط الأخاء وكرعت من خالص وفائه ما هو كماء المزن في الصفاء والاخلاق التي كنت أراها فيه والشيم العربية التي كانت تتمثل في جميع منازعة كانت تضمن له مني خليلا لا يفارقه في السراء والبأساء وكنت إذا خطبت في المجلس يملأه تصفيفا.
عندما كنا في المجلس كان المرحوم كامل بك واسطة خير كلما جرت وحشة بين اثنين منا اجتهد في ازالتها وطالما أدب المآدب لمبعوثي العرب بقصد تلاقي بعضهم مع بعض وجمع كلمتهم وكان أحد الرصفاء دعا مرة بضعة عشر مبعوثا إلى طعام فاقتدى به رصيف آخر فدعا نحو عشرين شخصا فخطر ببال كامل بك ان يدعو جميع أعضاء مجلسي المبعوثين والأعيان مع النظار إلى مأدبة حافلة لم يسبق مثلها فكاشف بفكره هذا عدة من زملائه فكلهم زهده في هذه الفكرة وقال له ما لك ولهذه الكلفة فجاء واستشارني فقلت له ان هذه المأدبة ستجمع 300 مدعو فتكون كلفتها كذا وكذا وأنت تنفق ضعفي ذلك على وفد يأتيك من عرب الحولة بمائتين أو ثلاثمائة خيال حال كون وليمة كهذه في الآستانة يتجلى فيها الكرم العربي ولم يسبق ان مبعوثا عمل مثلها فيكون لها وقع أعظم فلما كلمته بما وافق هوى نفسه تهلل وجهه فرحا وقال لي عليك ان تدعو لي النظار فقلت له سيكون ذلك وهكذا فقد كانت مأدبة نادرة المثال في مطعم طوقاتليان الشهير في الآستانة جمعت أعضاء مجلسي المبعوثين والأعيان ونظار الدولة وكثيرا من الأكابر مما زاد على 300 مدعو وقرأت ليلتئذ قصيدة في موضوع الاتحاد والاتفاق والتحذير من الشقاق والاختلاف لئلا يصيبنا من استيلاء الأجانب ما أصابنا ويا للأسف بعد الحرب وأتذكر من أبيات تلك القصيدة ما يأتي:
أوادينا هل فيك من يسمع الندا * فقد آن ان تصغي ولو كنت جلمدا وقد رفعت فيك الحوادث صوتها * وألقت على أذنيك درسا مرددا وكم لليالي في جنابيك قبلها * نداء ولكن قل من يسمع الصدا فهل فيك يا وادي الكرام بقية * ترد على الداعي إلى سبل الهدى ويعلم منها اننا اننا الألى * قديما ملأنا الأرض مجدا وسؤددا ومنها:
سلوا اليوم عن البانيا ومصيرها * وما ناب فيها أحمدا ومحمدا وعن اخوة صاروا تراثا مقسما * وقد أرثونا جرح قلب مؤبدا أرادوا علوا فاستحال علوهم * هبوطا وماتوا يوم سموه مولدا احذرهم كيدا يدب دبيبه * فيحسبه المغرور نصحا مجردا وما قصدوا الا الشقاق وان نرى * طوائف يأبى امرنا ان يوحدا إذا اشتجر الاخوان في عقر دارهم * على الإرث يوما ضيعوه وأزيدا ولو شاء الكاتب ان يعدد مآثر هذا الفقيد العربي الكبير وأياديه البيض ومفاخره التي يحلو بذكرها النثر والقريض لطال الامر وضاق المجال فمصابه مصاب يعز بعده العزاء وتصغر في جنبه الأرزاء وسيذكره الوطن زمانا طويلا ويأسف على فقده كل من نطق بالضاد ويندبه جبل عامل مديد الدهر ويفتقده اهله كلما مر حادث وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. رحمه الله وأكرم مثواه واسكنه مقاصير خلده وألهمنا الصبر الجميل على فقده.
وهذه مرثية استمطرت عارضها الخاطر الفاتر والعارضة التي فتت في عضدها الأشجان ونبتت بها صروف الزمان فجاءت كما يجئ لا كما يجب وانما جعلتها ترجمانا للوعتي ومفاضا لأدمعي على هذا الأخ الحميم والفقيد العظيم:
هوى لفقدك ركن للشرق واحربا * يا كامل من يسلي بعدك العربا كل المصائب يفني الدهر شدتها * الا رداك فيفني الدهر والحقبا كنا نرجيك للجلى تذللها * فاليوم من ينبري للخطب ان وثبا تلقى النوازل بالأفعال صادقة * والناس في الخطب تسدي القول والخطبا ردت مصيبتك الأرزاء هينة * من بعدها وغدت أكبادنا صلبا هيهات تدخر الآماق سائلة * من المدامع تبغي بعدك الصببا لو كنت مع حاتم الطائي في زمن * ما نال في الكرم الاسم الذي كسبا نداك بالعين مشهود ونائله * هيهات نعلم منه الصدق والكذبا قد كنت تهدي من الأخلاق أسمحها * لقاصد ومن العلياء ما صعبا لله درك سباقا لمكرمة * كالسيف منصلتا والسيل قد زغبا يا أمة سكنت أكناف عاملة * وأوطنت شعفات العز والهضبا هل عندكم قومنا عن كامل خبر * فقد أتانا نبا أن قد نأى ونبا اللامع الرأي أن يدج الزمان بكم * والخالف الغيث أن تستبطؤوا السحبا كانت عيالا عليه منكم زمر * من كان منكم يتيما راء فيه أبا كانت بكاملكم أرجاء عاملكم * تتيه عجبا على الدنيا ولا عجبا قالوا عميد بني النصار قلت لهم * بل ركن كل امرئ في يعرب انتسبا لو أنصفت حقه افناء عاملة * من البكارق فيها الصخر وانتحبا لهفي على كامل الأوصاف كيف ثوى * ذاك المحيا ظلام الرمس واحتجبا لهفي على السيد الغطريف تحرمه * طوائف طالما استكفت به النوبا لهفي على الكامل الفذ الذي فقدت * به الورى المثل الأعلى لمن وهبا على الذي لو قضيت الدهر تصحبه * لم تلق الا الوفا والصدق والأدبا تقرأ على وجهه آيات شيمته * وتنثني قائلا سبحان من كتبا في كل يوم أرى منه أخا ثقة * شهما ومن غيره الحساد والرقبا أخ أشد به أزري لنائبة * ولا أعز عليه اخوتي نسبا كم كنت آمل أن أحظى بطلعته * يوما واطفئي من أشواقي اللهبا كم كنت أذكره في غربتي كلفا * أحدو إلى وجهه الوضاح ريح صبا حتى أتاني نعي غير منتظر * ألفيت ناضر آمالي به حطبا ويل أمها جملة لما بصرت بها * خلت المنايا أماني والحياة هبا من لي بان أمسك الدمع الهتون على * خدي وأن أدرك النوم الذي هربا مهلا بني الأسعد الأمجاد خطبكم * خطب به الوطن المحبوب قد نكبا تبكي له العرب العرباء أجمعها * من ساكن مدرا أو ضارب طنبا ولو عقدنا عليه كل شارقة * مناحة ما قضينا بعض ما وجبا لكنما الموت حتم لا يحيك به * حزن ولا عارض للدمع منسكبا وانما نحن ركب سائرون معا * وكلنا شارب الكاس التي شربا يا رب أمطر ثراه كل غادية * تخضل منها بقاع حوله وربى آتيته كرم الأخلاق منقبة * فكن كريما عليه ربنا حدبا