وقد كانت العربية سليقة للصحابة رضي الله عنهم وبلغتهم نزل القران، وبها بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يعرفون مقصد الكلام ومغزاه من لحن القول وفحواه، وقد شهدوا عهد الوحي والتنزيل، ولزموا النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وإقامته، وكانوا مع ذلك على جانب عظيم من الفطنة والذكاء وسلامة الذوق ونور البصيرة والحرص على التشريع علما وعملا، فوقفوا على أسرار الشريعة ومقاصدها، ولم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى دراسة قواعد يستعينون بها في استثمار نصوص الشريعة ولا ضرورة تلجئهم إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الاحكام من الأدلة.
وقد سار التابعون على مدرجتهم، وسلكوا سبيلهم فاستغنوا غناهم لقرب العهد بالوحي، وقوة الصلة بالصحابة، وكثرة الاخذ عنهم والمخالطة لهم، وغلبة السلامة على اللغة العربية من الكلمات الدخيلة.
ولما بعد العهد بزمن النبوة، وكثر اختلاط العرب بغيرهم من الفرس والروم، وترجم كثير من الكتب اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية أيام الدولة العباسية استعجم كثير من العرب في لغتهم، وأساليب كلامهم، وتأثرت أذواقهم، واختلف مناهجهم وتغيرت أغراضهم في نثرهم وشعرهم. واللغة العربية لغة الكتاب والسنة أسلوبا ومنهجا، ومقصدا ومغزي فهي الطريق إلى فهمهما والعمدة في ادراك أسرارهما وعليها يتوقف معرفة كثير من وجوه اعجاز القران، فلذا عني العلماء يحفظها في جوانبها المختلفة بشتى الوسائل وتوسعوا في تدوين قواعدها، وبدأوا يضعون قواعد أصول الفقه. وساعدهم على ذلك ما وقفوا عليه في الكتب المترجمة من صناعة التأليف ونظام التقعيد وحسن التبويب والترتيب.
وزاد تدوين أصول الفقه سهولة أن قواعده عند علماء الحديث في الحجاز وعلماء الرأي بالعراق بدأت تتمايز في نقاش المجتهدين من الفريقين، وتظهر في حجاجهم واستدلالهم، وان لم تكن مدونة لديهم.
وكان أول من عني بتدوين أصول الفقه فيما اشتهر بين العلماء أبو عبد الله محمد ابن إدريس الشافعي فأملى كتابه المعروف بالرسالة، وكتبه عنه الربيع بن سليمان المرادي، وقد جمع في املاء الرسالة بين أمرين اجمالا.