والتحقيق أن في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف ظهورا وخفاء، وليست ظواهره من هذه الناحية على نسق واحد بالنسبة إلى أكثر الناس. وكذلك كل كلام، ولا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهرا يصلح للاحتجاج به عند أهله، بل قد تكون الآية الواحدة لها ظهور من جهة لا يخفى على كل أحد، وظهور آخر يحتاج إلى تأمل وبصيرة فيخفى على كثير من الناس.
ولنضرب لذلك مثلا، قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) *، فإن هذه الآية الكريمة ظاهرة في أن الله تعالى قد أنعم على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعطائه " الكوثر " وهذا الظهور بهذا المقدار لاشك فيه لكل أحد. ولكن ليس كل الناس فهموا المراد من " الكوثر " فقيل: المراد به نهر في الجنة، وقيل: المراد القرآن والنبوة، وقيل: المراد به ابنته فاطمة (عليها السلام) (1). وقيل غير ذلك. ولكن من يدقق في السورة يجد أن فيها قرينة على المراد منه، وهي الآية التي بعدها * (إن شانئك هو الأبتر) * والأبتر: الذي لا عقب له، فإنه بمقتضى المقابلة يفهم منها أن المراد الإنعام عليه بكثرة العقب والذرية. وكلمة " الكوثر " لا تأبى عن ذلك، فإن " فوعل " تأتي للمبالغة، فيراد بها المبالغة في الكثرة، والكثرة: نماء العدد. فيكون المعنى: إنا أعطيناك الكثير من الذرية والنسل. وبعد هذه المقارنة ووضوح معنى " الكوثر " يكون للآية ظهور يصح الاحتجاج به، ولكنه ظهور بعد التأمل والتبصر. وحينئذ ينكشف صحة تفسير كلمة " الكوثر " بفاطمة لانحصار ذريته الكثيرة من طريقها، لا على أن تكون الكلمة من أسمائها.