ولا شك في فساد هذا القسم فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح. فثبت أن المقصود منه المناجاة وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبرا عما في القلب من التضرعات فأي سؤال في قوله * (إهدنا الصراط المستقيم) * (الفاتحة: 6) وكان القلب غافلا عنه؟ بل أقول لو حلف إنسان، وقال: والله لأشكرن فلانا وأثنى عليه وأسأله حاجة. ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم لم يبر في يمينه ولو جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه، ولا يكون كلامه خطابا معه ما لم يكن حاضرا بقلبه، ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب عليه عند نطقه لم يصر بارا في يمينه، ولا شك أن المقصود من القراءة الأذكار والحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله تعالى، فإذا كان القلب محجوبا بحجاب الغفلة وكان غافلا عن جلال الله وكبريائه، ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد ذلك عن القبول. وأما الركوع والسجود فالمقصود منهما التعظيم، ولو جاز أن يكون تعظيما لله تعالى مع أنه غافل عنه، لجاز أن يكون تعظيما للصنم الموضوع بين يديه وهو غافل عنه، ولأنه إذا لم يحصل التعظيم لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس، وليس فيها من المشقة ما يصير لأجله عمادا للدين، وفاصلا بين الكفر والإيمان، ويقدم على الحج والزكاة والجهاد وسائر الطاعات الشاقة، ويجب القتل بسببه على الخصوص، وبالجملة فكل عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة، فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلاة لا بد فيها من الحضور وسابعها: أن الفقهاء اختلفوا فيما ينويه بالسلام عند الجماعة والانفراد، هل ينوي الحضور أو الغيبة والحضور معا. فإذا احتيج إلى التدبر في معنى السلام الذي هو آخر الصلاة فلأن يحتاج إلى التدبر في معنى التكبير والتسبيح التي هي الأشياء المقصودة من الصلاة بالطريق الأولى، واحتج المخالف بأن اشتراط الخضوع والخشوع على خلاف اجتماع الفقهاء فلا يلتفت إليه والجواب: من وجوه: أحدها: أن الحضور عندنا ليس شرطا للأجزاء، بل شرط للقبول، والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء، والمراد من القبول حكم الثواب. والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب، وغرضنا في هذا المقام هذا، ومثاله في الشاهد من استعار منك ثوبا ثم رده على الوجه الأحسن، فقد خرج عن العهدة واستحق المدح، ومن رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة، ولكنه استحق الذم، كذا من عظم الله تعالى حال أدائه العبادة صار مقيما للفرض مستحقا للثواب، ومن استهان بها صار مقيما للفرض ظاهرا لكنه استحق الذم وثانيها: أنا نمنع هذا الإجماع، أما المتكلمون فقد اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع، واحتجوا عليه بأن السجود لله تعالى طاعة وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من أمر لأجله صار السجود في إحدى الصورتين طاعة،
(٧٨)