وقوله: * (هذان) * كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة، وأيضا ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: * (إن الله يفصل بينهم) * أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكما فبين الله تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم أمورا ثلاثة: أحدها: قوله: * (قطعت لهم ثياب من نار) * والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * (الأعراف: 41) عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى: * (سرابيلهم من قطران) * (إبراهيم: 5) وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: * (ونفخ في الصور) * (الكهف: 99)، * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) * (ق: 21) لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع. وثانيها: قوله: * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * يصهر به ما في بطونهم والجلود، الحميم الماء الحار، قال ابن عباس رضي الله عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها، يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله: * (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) * (محمد: 15). وثالثها: قوله: * (ولهم مقامع من حديد) * المقامع السياط وفي الحديث " لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها " وأما قوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها، ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفا وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك، ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه: أحدها: المسكن، وهو قوله: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) *، وثانيها: الحلية، وهو قوله: * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) * فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضا شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة. وثالثها: الملبوس وهو قوله: * (ولباسهم فيها حرير) *، ورابعها: قوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول) * وفيه وجوه: أحدها: شهادة أن لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله: * (ومثلا كلمة طيبة) * (إبراهيم: 24) وقوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) وهو صراط الحميد لقوله: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52)، وثانيها: قال السدي وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن. وثالثها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده. ورابعها: أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام، وهو معنى قوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم
(٢٢)