وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟
قلنا: فيه وجهان: الأول: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال: حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد، واخفض لهما جناحك الذليل، أي المذلول. والثاني: أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحا وأثبت لذلك الجناح ضعفا تكميلا لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فأثبت للشمال يدا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله: * (من الرحمة) * معناه: ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس: قوله: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: * (رب ارحمهما) * ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول: * (كما ربياني صغيرا) * يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى: * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (فصلت: 39).
البحث الثاني: اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: رب ارحمهما.
والقول الثاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.