أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة. وثانيها: أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة. وثالثها: أنه تعالى لم يقل: وإحسانا بالوالدين، بل قال: * (وبالوالدين إحسانا) * فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام. ورابعها: أنه قال: * (إحسانا) * بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم، والمعنى: وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ.
ثم قال تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ " إما " لفظة مركبة من لفظتين: إن، وما. أما كلمة إن فهي للشرط، وأما كلمة (ما) فهي أيضا للشرط كقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية) * (البقرة: 106) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط، إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد، لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول: إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه، إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع، لأن قول القائل: الشيء إما كذا وإما كذا، فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين، وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد؟
وجوابه: أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ الأكثرون: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) * وعلى هذا التقدير فقوله: * (يبلغن) * فعل وفاعله هو قوله: * (أحدهما) * وقوله: * (أو كلاهما) * عطف عليه كقولك: ضرب زيد أو عمرو: ولو أسند قوله: * (يبلغن) * إلى قوله: * (كلاهما) * جاز لتقدم الفعل، تقول قال رجل، وقال رجلان، وقالت الرجال، وقرأ حمزة والكسائي: * (يبلغان) * وعلى هذه القراءة فقوله: * (أحدهما) * بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا.
فإن قيل: لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيدا لا بدلا، فلم زعمتم أنه بدل؟
قلنا: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله في كونه بدلا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال قوله: * (أحدهما) * بدل، وقوله: * (أو كلاهما) * توكيد، ويكون ذلك عطفا للتوكيد على البدل.