فطمس عنه الضوء. ومعنى المحو في اللغة: إذهاب الأثر، تقول: محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره، وأقول: حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى، وذلك لأن اللام في قوله: * (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) * متعلق بما هو مذكور قبل، وهو محو آية الليل. وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله. إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر، وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار في المد والجزر، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال: * (ولتعلموا عدد السنين والحساب) * فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى. وأقول أيضا: لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر، فهو أيضا برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد، أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة، فوجب أن يكون متشابه الصفات، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي، وبعض أجزائه بالنور الضعيف، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذات. وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان، وهذا لا يفيد مقصود الخصم، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات، والله أعلم.
أما قوله: * (وجعلنا آية النهار مبصرة) * ففيه وجهان: الأول: أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب. والثاني: قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه، كقوله: