أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة، فعلى هذا، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت، ممتنعة الزوال، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول: إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا قويا كان أو ضعيفا، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات. وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان. إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام: " من مات فقد قامت قيامته " ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي، فإذا انقطع ذلك التعلق، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء، وقيل له * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) * (ق: 22) وقوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * معناه: ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابا مشتملا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورا، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية. أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية، وظاهرة بعد أن كانت مخفية، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة: * (اقرأ كتابك) * ثم يقال له: * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية.