وترك الالتفات إلى سؤالهم، واختلفوا في الضمير في قوله: * (أحق هو) * قيل: أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع. وقيل: ما تعدنا من البعث والقيامة. وقيل: ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا. ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله: * (قل إي وربي إنه لحق) * والفائدة فيه أمور: أحدها: أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء، وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد. وثانيها: أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي، ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي، بل ينتفع بالأشياء الإقناعية، نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام، وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم، فكذا ههنا.
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: * (وما أنتم بمعجزين) * ولا بد فيه من تقدير محذوف، فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحدا لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى، ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات، إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى، وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى، ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء: أولها: قوله: * (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به) * إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئا كما قال تعالى: * (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) * (مريم: 95) وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى: * (ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * (البقرة: 48) وقال في صفة هذا اليوم * (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) * (البقرة: 254) وثانيها: قوله: * (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) *.
واعلم أن قوله: * (وأسروا الندامة) * جاء على لفظ الماضي، والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع، جعل الله مستقبلها كالماضي، واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد، أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره.
إذا عرفت هذا فنقول: من الناس من قال: المراد منه إخفاء تلك الندامة، والسبب في هذا الإخفاء وجوه: الأول: أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتا متخيرا لا ينطق بكلمة. الثاني: أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم.