فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقا تابعا للرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة، قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار.
المسألة الثانية: احتج ابن قتيبة بهذه الآية، على أن السمع أفضل من البصر فقال: إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر. وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال: إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب، ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله. واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن، فقال: كلما ذكر الله السمع والبصر، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى: فأحدها: أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى.
الحجة الثانية: أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل.
الحجة الثالثة: أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع، ولا يتوقف على قوة البصر، فكان السمع أفضل من البصر.
الحجة الرابعة: أنه تعالى قال: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * والمراد من القلب ههنا العقل، فجعل السمع قرينا للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) * (الملك: 10) فجلوا السمع سببا للخلاص من عذاب السعير. الحجة الخامسة: أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.